وُلد الكاتب والشاعر الروسي بوريس
باسترناك(1890_1960)لأب كان يهوديًّا ثُمَّ تَحَوَّل إلى الكنيسة الأرثوذكسية،وهو
رسَّام وأستاذ في معهد الفنون. ووالدته كانت عازفة بيانو مشهورة.
نشأ في عائلة فنية ومنفتحة على الثقافات ،
وهذا الأمر دفعه إلى دخول كونسرفتوار موسكو عام 1910 ، لكنَّه تركه ليدرس الفلسفة
في جامعة ماربورغ الألمانية . ورغم نجاحه الدراسي، رفض العمل في مجال تدريس
الفلسفة ، وترك الجامعة عام 1914 .
وفي نفس السنة أصدر ديوانه الأول ، الذي
احتوى على قصائد واقعة تحت تأثير أفكار الفيلسوف الألماني كانت ، ومكتوبة بلغة
يومية ذات كلمات مُتشابهة ( نوع معروف في الشِّعر الروسي كالسَّجْع عند العرب،
ولكن التشابه يكون في بداية الكلمات ) .
خلال الحرب العالمية الأولى ، عمل باسترناك
في مختبر للكيمياء في الأورال. وهذه التجربة الشخصية سَتَكون مادةً أولية
سيستخدمها لاحقًا في رواية " دكتور جيفاغو " .
في صيف 1917 ، بينما كان باسترناك في سهل
ساراتوف ( جنوب شرق روسيا ) ، عاش قصة حب ملتهبة مع فتاة يهودية، كانت مُلْهِمَتَه
الأولى. وهذه التجربة الغرامية أوحت له بمجموعة شعرية كتبها خلال ثلاثة أشهر،
وامتنع عن نشرها_إحراجًا_ لمدة أربع سنوات. وقد نُشرت في عام 1921 بعنوان "
حياتي الشقيقة "، وأحدثت تأثيرًا هائلاً على الشِّعر الروسي. وصار باسترناك
مثالاً يُحتذَى لصغار الشعراء ، حتى إِنَّه أثَّرَ على كبار الشعراء الرُّوس في
عصره . وتُعتبَر " حياتي الشقيقة " من أهم المجموعات الشِّعرية التي
كُتبت باللغة الروسية في القرن العشرين .
في أواخر العشرينيات، بدأ باسترناك يشعر أن
أسلوبه الشِّعري يتعارض مع المناخ الأدبي الناتج عن الواقعية الاجتماعية التي كان
الحزب الشيوعي السوفييتي يَدعمها ويَنشرها ، فحاولَ باسترناك أن يُبسِّط شِعره حتى
يصل إلى القارئ العادي . وفي عام 1932 ، غَيَّرَ أسلوبَه الشِّعري بشكل جذري
ليتوافق مع المفاهيم السوفييتية الجديدة. وأصدر مجموعته الشِّعرية " الولادة
الثانية " التي كانت كارثيةً . وأُصيب مُحِبُّوه في الخارج بخيبة أمل. ثُمَّ
اعتمدَ بشكل كُلِّي على التبسيط والمباشَرة في الوطنية في مجموعته التالية"
قطارات مُبكِّرة" ( 1943). فكانت النتيجة سَيِّئة للغاية، وتعرَّضَ لهجوم حاد
من النُّقاد . في أواخر الثلاثينيات ، قادت السُّلطةُ السوفييتية حَملات تطهير
واسعة في أوساط الأدباء والمفكرين الروس، فشعر باسترناك بالخيبة والخذلان من
الشعارات الشيوعية ، ورفضَ نشر شِعره ، وتَوَجَّه إلى ترجمة الشِّعر العالمي إلى
الروسية . وقد أنقذته عبقريته اللغوية من الاعتقال ، حيث مُرِّرت قائمة أسماء
الذين صدرت أوامر باعتقالهم أمام ستالين ، فحذف اسْمَه قائلاً : " لا تلمسوا
ساكن الغيوم هذا " .
أبرز ما كتبه باسترناك خلال مسيرته الأدبية
رواية " دكتور جيفاغو " . وتحكي قصة حياة طبيب وُلد في أواخر القرن
التاسع عشر. وقد أعطى المؤلف صُورًا عن الحياة في روسيا ، قبل الحرب العالمية
الأولى وأثناءها ، وأثناء الحرب الأهلية وبعدها. لقد كان باسترناك مُحِبًّا للحياة
ومُتفائلاً، وهذا انعكس في تجسيده للشخصية الأساسية في هذه الرواية ، أمَّا بطلة
الرواية " لارا " ، فالنقادُ يقولون إنها تُمثِّل عشيقته أولغا
إيفنسكايا. وبسبب انتقاده الشديد للنظام الشيوعي، لَم يجد ناشرًا يقبل بنشر
الرواية في الاتحاد السوفييتي . لذلك فقد هُرِّبت عبر الحدود إلى إيطاليا ، ونُشرت
في عام 1957، وأحدثت تأثيرًا سلبيًّا في الاتحاد السوفييتي ، وإيجابيًّا في الغرب
.
وقد كتب باسترناك هذه الرواية، وهو واقع تحت
تأثير فرحه بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتصار شعبه فيها ، وأمله بانتشار
الحرية والديمقراطية في المجتمع السوفييتي ، وأن تتوقف أعمال القمع والمحاكمات
التي يتعرَّض لها المثقفون وغيرهم . لكن هذا الأمل لَم يكن سوى سراب .
وفي عام 1958 مُنح جائزة نوبل للآداب . لكن
السُّلطة السياسية في بلاده أجبرته على رفضها . ولَم يتم الاكتفاء بهذا ، فقد فُصل
من اتحاد الكُتَّاب ، وأُوقف إصدار ترجماته ، وفُرض حظر عليه ، وتُرك بلا راتب .
والجديرُ بالذِّكر أن السُّلطة السوفييتية كانت قد وضعته تحت المراقبة منذ مطلع الثلاثينيات
، وصَوَّرته إنسانًا معزولاً عن العالَم ، غارقًا في الذاتية والانطوائية والعدمية
. ثُمَّ أطلقت عليه لقب " المرتد " و" عدو الشعب " .
تتميَّز كتابات باسترناك بعمق نفسي (
سيكولوجي ) وفلسفي ، وإدراك عميق للعالَم والروح الإنسانية ، مع الحفاظ على بساطة
التعبير وعمق الرؤية ووضوحها . وتُعتبَر الغنائية سِمةً بارزة في كتاباته،وهي
غنائية قائمة على الأصوات والألفاظ المتناغمة المثقلة بالأحاسيس والصور والإيقاعات
المتنوعة . كما تتميَّز قصائده بالدِّقة ، وتداعي الأفكار ، والتراكيب المعقَّدة .
ويتَّصف مُعجمه اللغوي بالضخامة والغِنى . وصُوَره الفنية تمتاز بالتكثيف ،
والأداء الجمالي ، وقوة التعبير .
من أبرز أعماله الشِّعرية : خلال الحواجز (
1916) . حياتي الشقيقة ( 1921) .
ومن أبرز كُتبه النثرية : في الصيف الماضي ( 1934) . الطفولة ( 1941).