وُلد الكاتب الفرنسي بول فاليري ( 1871 _
1945) في سيت المطلَّة على البحر المتوسط جنوبي فرنسا . وتُوُفِّيَ في باريس .
كان والده من جزيرة كورسيكا مُوظفًا في
الجمارك،ووالدته إيطالية من أسرة نبيلة. بدأ فاليري دراسته لدى الرهبان الدومنيكان
، وتابع في معهد في مدينة سيت. رفض الانتساب إلى المدرسة البحرية عام 1884 ، فقد
كان مولعًا بالأدب والرسم والهندسة المعمارية . وبدأ بعد حصوله على الثانوية دراسة
الحقوق عام 1888 في مونبلييه ، وحصل على الإجازة عام 1892 .
اهتمَّ فاليري بالشعراء الرمزيين أمثال:
مالارميه، وفيرلين . وكتب نحو مئة قصيدة عام 1889 متأثرًا بالشِّعر الرمزي .
شهد عام 1892 انعطافًا في حياة فاليري .
فعندما كان يُمضي إجازته عند أسرة والدته في جنوا ، بعد خروجه من أزمة عاطفية،
أدرك في ليلة عاصفة، كان فيها ضحية الأرق، مخاطر الحياة العاطفية وتأثيرها في
النشاط الفكري ، فقرَّر كبت عاطفته وإخماد قريحته الأدبية ، وحُبه للفن والإبداع،
وتخلَّصَ من معظم كُتبه عند عَودته إلى مونبلييه. ثم فكَّر فاليري في عمل إداري ،
فاستقر في باريس عام 1894 ، ليشغل وظيفة مُحرِّر في وزارة الحرب، وتركها عام 1900
، ليصبح أمين سر مدير وكالة الأنباء" هافاس" إدوارد لُبي الذي كان
مُقْعَدًا . وبقي فاليري مساعدًا له اثنين وعشرين عامًا أكسبته خبرة في الأوساط
الباريسية وجعلته يواكب الأحداث. واستطاع في وقت فراغه إجراء بعض البحوث ونشر بعض
المقالات وإن كانت بعيدة عن الأدب منها: " مدخل إلى منهجية ليوناردو
دافنشي"(1895).وقد كان دافنشي مثاله الأعلى لأنه جمع بين العلم والفن رغبة في
الوصول إلى الكمال ، ومقالة عن الغزو الألماني عام 1897 ، مُشيرًا إلى الغزو
الاقتصادي.
بقي فاليري على اتصال مع الوسط الأدبي
والفني، فزواجه من جاني غوبيار القريبة إلى أسرة الرَّسام الشهير مانيه ، ربطه
بصلات وثيقة مع المشاهير من الوسط الفني . وبفضل الكاتب أندريه جيد والناشر
غاليمار ومساعيهما الحثيثة في إقناع فاليري بنشر الأبيات التي نظمها وهو شاب ، شهد
عام 1917 صدور ديوانه الشِّعري "بارك الشابة " الذي أكسبه شهرة، وتناول
فيه موضوع الوعي وتطوُّره . وكلمة " بارك " المشتقة من كلمة باركا
اللاتينية كانت تُطلَق عند القدامى على آلهة تُمثِّل مراحل الحياة البشرية . وقد
اختار فاليري مرحلة الشباب أي أصغرها ، للدلالة على مرحلة نشوء الوعي عند الإنسان.
وكي لا ينزلق الشاعر إلى الشعر
الفلسفي المجرَّد ، اختار رمزًا تصبح به بارك سيدة شابة جريحة الهوى رضخت لقوة
الطبيعة وجاذبيتها . وبدأ فاليري يتألق مستجيبًا لذوق العصر ، وفُتِحت له أبواب
المنتديات الأدبية الكبيرة في العاصمة، وازداد شهرة بصدور أبياته تحت عنوان "
المقبرة الملاحية " في المجلة الفرنسية الجديدة عام 1920 . وهي المقبرة
المطلَّة على البحر في مسقط رأسه .
يُعتبَر فاليري مِن كبار الشعراء المعاصرين
مع صدور ديوانه " مفاتن " عام 1922 الذي ضمَّ إحدى وعشرين قصيدة ، وصف
فيها مأساة الفكر البشري في مساره ، وما يلقاه من آمال وأهواء وإغراءات وآلام ،
إضافة إلى المراحل التي يقطعها وصولاً إلى المعرفة .
عند وفاة مدير وكالة الأنباء ، قرَّر فاليري
التفرُّغ للأدب. وتلقى دعوات من أنحاء العالم لإلقاء محاضرات وكتابة مقالات جَمعها
كلها في سلسلة " ألوان أدبية " في الفترة ( 1924_1944 )، وكذلك في سلسلة
" تِلْ كِل ، ونظرات على العالَم الحاضر " عام 1931 . وحَظِيَ بالتكريم
وبانتخابه في الأكاديمية الفرنسية عام 1925 ، وبتسميته عضوًا في مجالس رسمية
مختلفة .
عمل فاليري بنشاط طيلة خمسين عامًا ، وكانت
الكتابة لديه وسيلة تساعده على التقدم في معرفة الذات ، ومِن ثَمَّ معرفة آلية
التفكير البشري بعيدًا عن أي تأثير خارجي .
وكان يريد أن يكون شاعر المعرفة ، وهذا ما
بحث عنه في أولى مقالاته " أُمسية مع السيد تِست " عام 1896 . وقد رأى
فاليري في هذه الشخصية فكرًا نَيِّرًا كامل الوضوح ذا بصيرة نافذة، يرى الأشياء
كما هي ، ويحاول اكتشاف شريعتها واضعًا نصب عينيه السؤالين التاليين : مَن أنت ؟ ،
وكيف تعرف نفسك ؟ .
أرادَ فاليري أن يقول عبر مؤلفاته أن ما
يُبعِد العقلَ والفكرَ عن الفهم والوعي والإدراك ، يكمن في المشاعر الكاذبة
والأهواء ، فكل هيجان أو اضطراب عاطفي يفقد طاقة هائلة ، كما يرافقه تشويش كبير في
الفكر واختلاط في القيم .
وإذا أراد فاليري كبح عاطفته ليكون سيِّد فكره، فليس بهدف التحكم به، لأن القوة _ كما يقول _يمكن أن تكون خادعة أيضًا ، ولكن بهدف إيجاد سلوك مساعد للفكر لا استبداد فيه ، ولا تكاسل. سلوك نيِّر يُولِي اهتمامًا للذات وللأشياء ، يعتصم بالصبر ، ويلتزم القيود التي يفرضها على صاحبه .