الأسئلةُ المطروحة على
الأنساق الاجتماعية لا تهدف إلى إيجاد تفسير عقلاني لحركة الأفراد من أجل تقييدها
لصالح السُّلطات الأبوية ، وإنما تهدف إلى بَلورة وَعْي اجتماعي يُحرِّر العقلَ
مِن ثقافة القطيع ، ويُحرِّر طريقةَ التفكير مِن ضَغط المُسلَّمات المصنوعة لتحقيق
مصالح شخصية. وهذا يعني أن الغاية مِن عملية العَقلنة هي تحرير العقل مِن سُلطة
العناصر الاجتماعية الضاغطة المُحيطة به ، وليس تَدجين العقل وإخضاعه لإفرازات
العقل الجمعي . ولَن يَقْدِر العقلُ على الانطلاق نَحْو الإبداع إلا بكسر القيود ،
والتخلص مِنها ، وليس تنظيفها وإزالة الصَّدَأ عنها ، فالتَّحَرُّر والحُريةُ
يَعْنِيان كَسْرَ القيود على العقل لا تَلْميعها . وإذا تحرَّرَ العقلُ الفردي
فإنَّ العقل الجمعي سيتحرَّر تلقائيًّا ، وإذا تحرَّرَ العقلُ الجمعي، فإنَّ
الأنساق الاجتماعية ستُصبح حاضنةً شرعية للإبداع والإنتاجِ المعرفي .
2
وُجود
الشَّيء على أرض الواقع لا يَعني بالضَّرورة إمكانيةَ الوصول إلَيه ، فالوصولُ إلى
الهدف يَختلف عن طبيعة الهدف ، وخصائص الوسيلة تختلف عن خصائص الغاية . والطريقُ
إلى البَيت لا فائدة مِنه إذا كان الفردُ لا يملك مِفتاح البَيت . والضوءُ في
نهاية النفق الاجتماعي مَوجود ، ولكنَّ الأفراد والجماعات عاجزون عن رؤيته والوصول
إلَيه لأن هناك حاجزًا بَيْنهم وبَيْنه . لذلك ، يَنبغي أن تتوجَّه العلوم
الإنسانية والمناهج الفكرية والظواهر المعرفية نَحْو إزالة الحواجز والعَقَبَات
مِن طريق الإنسان إلى غايته وحُلْمه ، وليس صناعة الطريق ، أو اختراع معنى جديد
للإنسان ، فالطريقُ مَوجود ، والإنسان مَوجود ، لكنَّ المُشكلة في العَقَبَات التي
تَقطع طريقَ الإنسان نَحْو إنسانيته، وبالتالي تَمنعه مِن التقدُّم ، وتَحُول
بَينه وبَينه تحقيق أحلامه . وهذا يعني أن فلسفة الفكر الاجتماعي هي عملية إزالة
للعَقَبَات ، وتنظيف للطريق ، ونَفْض للغُبار عن القُلوب . إنها عملية إعادة
اكتشاف المَوجود ، ولَيست عملية اختراع شيء غَير مَوجود . فلا معنى للبحث في
الأوهام والخيالات ، ولا جَدوى مِن مُحاولة اختراع إنسانية جديدة . كُل شيء موجود في
الواقع ، ولا جديد تحت الشمس ، والذهب موجود في التراب ، والمهمة الرئيسية ليست
اختراع الذهب، أوْ تغيير خصائصه وصفاته ، وإنَّما التنقيب عنه ، واستخراجه ،
وتحويله إلى أشكال يُمكن الاستفادة مِنها باستخدام التكنولوجيا الحديثة ، والأدوات
المتطورة .
3
في حقيقة
الأمر ، إنَّ الإنسان لا يُصنَع ، لأنَّه مَصنوع وموجود وجاهز للتَّلَقِّي
والتفاعل مع العناصر ، وإنَّما يُعاد اكتشافه ، بِصَقْل مواهبه ، ونَفْض الغُبار
عن إمكانياته وأحلامه ، وإظهار نقاط قُوَّته ، وإزالة نقاط ضعفه . والإشكاليةُ في
بِنية العلوم الإنسانية وطبيعة الأنساق الاجتماعية هي عدم التفريق بين الاختراع
والاكتشاف،فالاختراعُ هو إيجاد علاقات اجتماعية غير موجودة على أرض الواقع ،
أمَّا الاكتشاف فهو إظهار العلاقات الاجتماعية المَدفونة في ضجيج الواقع اليومي، واستخراج
المواهب الإبداعية المُتفرِّدة مِن زِحام الحياة العملية،
والوصول إلى الأشياء المَيتة في قلب الإنسان بُغية إحيائها ، وإبراز الأحلام المنسية في أعماقه السحيقة ، وإخراجها مِن الظلام إلى النُّور. لذلك ، يجب على الفكر الاجتماعي أن يبتعد عن إعادة اختراع العَجَلة ، وأن يُركِّز في اكتشاف المَوجود ، وليس اختراع اللاموجود. والإبداعُ الحقيقيُّ يتجلَّى في التَّنقيب عن الإنسان في أنقاض الحياة ورُكام الواقع ، وإخراج الشعور الإنساني مِن المَوت والاندثار إلى الحياة والانطلاق . والتغييرُ الفَعَّال إنما يكون في مجال السُّلوك الواعي ، ولَيس في مجال الشعارات الرَّنانة ، ولا شَكَّ أنَّ تجديد السُّلوك أكثر أهمية وتأثيرًا مِن تجديد الخِطَاب .