سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/05‏/2021

جيمس جويس ورواية عوليس

 

جيمس جويس ورواية عوليس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............


وُلد الأديب الأيرلندي جيمس جويس( 1882_ 1941) لعائلة من الطبقة الوسطى في زيورخ في سويسرا . وُضِع وهو في السادسة من عُمره في مدرسة داخلية يُشرِف عليها رُهبان يسوعيون . وقد جعلته التربية القاسية يعتاد على النظام ، ويتزوَّد بدراسة علمية وأدبية غنية أفادته في كتاباته . لكنَّ التزمت الشديد في تلك التربية زَرعت في نفسه بذور التمرد والتحدي ، وأدَّت في شبابه إلى زعزعة إيمانه ، وكُره دائم لرجال الدين .

التحق جويس بجامعة دَبلِن، وقرَّر أن يصبح أديبًا.وفي عام 1902 ، انتقلَ إلى باريس، فرنسا. كانت حياته صعبة، ومليئة بالمشكلات الاقتصادية بسبب إنفاقه المستهتر ، والمرض الذي أصاب عينيه ومعدته ، والتشتت الأسري بسبب والده الماجن ، والاكتئاب الحاد بعد إصابة ابنته الكبرى بمرض عقلي ، والتنقل المستمر في جميع أنحاء أوروبا بحثًا عن وظيفة أو مكان للعمل .

اتَّسمت مرحلة شبابه بالسُّمعة السيئة ، حيث ارتبط بعلاقة غير شرعية مع إحدى النساء ، وأنجبَ منها.وقد كان الجيران يتهامسون عن سر تلك العلاقة ، فكثيرًا ما كانوا يُشاهدونه مُتشاجرًا معها بسبب حالات السُّكر وتردده على بيوت الدعارة، كما كان يُصرِّح لها بذلك بنفسه .

وبسبب كُرهه لرجال الدين ، رفضَ جويس مؤسسة الزواج بأكملها .

وَمِن أبرز الشخصيات التي دعمت جويس معنويًّا ومالِيًّا ، وقدَّرت موهبته ، رغم أسلوب حياته السَّيئ ، الشاعر الأمريكي عِزرا باوند ، الذي كان له دور أساسي في تعريف الناس بجويس وكتاباته . وناشرة " عوليس " الأولى سيليفا بيش ، والبريطانية هارييت شوويفر التي كانت تُموِّله، وتحثه دَوْمًا على الكتابة حتى وفاته في زيورخ . مع العون المالي المقدَّم من أصحابه ، أمضى سبع سنين في كتابة رواية " عوليس " ( 1922) المثيرة للجدل،التي مُنِعت في البداية في الولايات المتحدة وبريطانيا . واليوم ، تُعتبَر تلك الرواية مِن أعظم كتب اللغة الإنجليزية في القرن العشرين . وكان صاحب اتجاه أدبي معروف باسم"تيار الوعي".

عانى جويس من صعوبات كثيرة في نشر كتبه . واستغرقَ الأمر أكثر من ثماني سنوات لإيجاد ناشر لروايته " الدبلنيون " يكون على استعداد لتحمل مخاطر نشر كتاب يحمل من الصور الأدبية والعبارات ما يكفي لتعرضه للملاحقة القضائية . وهكذا، استغرق الأمر أكثر من عشر سنوات لإعادة نشر " عوليس " بعد طبعتها الأولى في باريس، قبل أن تصبح متاحة بحرية في العالم الناطق بالإنجليزية . ولَم يكن جويس على عداء مع الرقابة فقط ، بل مع مجموعة مِن النخبة المغرورة في المجتمع الأدبي نفسه مثل فرجينيا وولف، التي كتبت في مذكراتها أنها وجدت في " عوليس " : (( كتابًا أُمِّيًّا ومستهترًا ... كتابًا بقلم رَجل عامل عَلَّم نفسه بنفسه )). وقد كتب أحد النقاد عن جويس : (( هو ليس تمامًا من دون موهبة ، لكنه دجَّال أدبي إلى أقصى الحدود )).

وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة ، تَمَّ تصنيف رواية جويس " يقظة فينيغان " الصادرة عام 1939، كأصعب وأعقد رواية في تاريخ الآداب الإنسانية ، بما تحمله من أسلوب فريد مِن نوعه في مُحاكاة الطبيعة البشرية ، وقد استغرقَ في تأليفها قُرابة سبع عشرة سنة ، لتخرج في النهاية ضمن ألف صفحة مليئة بالألغاز اللغوية . أمَّا رواية " عوليس " فحققت نجاحًا منقطع النظير. وفيها يعتمد جويس البنية الهوميرية للإلياذة ليبنيَ ملحمة معاصرة تُسجِّل تحركات البطل " ليوبولد بلوم " داخل مدينة دَبلِن خلال يوم واحد فقط يحمل تاريخ 16 حزيران (يونيو) 1904 ، والذي لا تزال مدينة دبلن تحتفل به حتى اليوم تحت مسمى " يوم بلوم "، عِلْمًا أنه هو تاريخ اللقاء الأول بين جويس وعشيقته . مِن خلال خط سَير " بلوم " يُسجِّل جويس تحركات المئات من سكان دبلن، وهم يسيرون في الشوارع، يلتقون بعضهم ببعض، يتعارفون ويتحدثون في المطاعم والحانات. تحركات ونشاطات تبدو عشوائية وعفوية بمثابة سجل يومي لأحداث المدينة، ولكن في الواقع لا شيء عشوائِيًّا مع جويس الذي يكشف في كتاباته العُمق المتخفي وراء الأشياء التي تبدو عفوية وغير مُتعمَّدة . تُعتبَر رواية " عوليس " مِن أبرز الأعمال في الأدب الحداثي ، حتى إنها اعْتُبِرَت " نموذجًا وإجمالاً للحركة بأكملها ".ويُشير العنوان _ الذي اقْتُبِس من اللاتينية _ إلى " عوليس " ، وهو بطل أوديسة هوميروس، ويفتح المجال لعدة موازنات بين شخصيات وأحداث ملحمة هوميروس وبين شخصيات وأحداث رواية جويس . ويبلغ طول رواية " عوليس " حوالي 265 ألف كلمة، ويستخدم جويس فيها قاموسًا يصل إلى ثلاثين ألف مفردة ( تشمل أسماء الأعلام وصيغ الجمع ومختلف تصريفات الأفعال ). ومُنذ نُشرت الرواية دار حولها الكثير من الجدل والانتقادات، من بينها حظر الرواية لفترة لاتهامها بالإباحية . ومِمَّا يجعل الرواية ذات قيمة عالية في تاريخ الأدب الحداثي ، استخدامها تقنية تيار الوعي، وبُنيتها المحكَمة ، وثراؤها في تجسيد الشخصيات وحِس الفُكاهة.وتصدَّرت الرواية سنة 1998 قائمة أفضل 100 رواية باللغة الإنجليزية في القرن العشرين .

30‏/05‏/2021

جيل دولوز وتاريخ الفلسفة

 

جيل دولوز وتاريخ الفلسفة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...............

وُلد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ( 1925 _ 1995 ) في باريس لعائلة من الطبقة المتوسطة . عاش أغلب حياته في باريس .

اهتمَّ بوجه خاص بدراسة تاريخ الفلسفة ، وتأويل نماذج متعددة منه يعتبرها على غاية من الأهمية مثل فلسفات كانت ونيتشه وبرغسون وسبينوزا .

تُمثِّل فلسفة جيل دولوز إلى جانب فلسفتَي دريدا وفوكو تقليدًا مستقلاًّ في التفكير المعاصر يريد أن يقطع مع الهيغيلية والماركسية والبنيوية .

أسَّس دولوز تقاليد جديدة في الفلسفة، ويُعتبَر واحدًا مِن أهم مُجدِّديها . وكان له موقفه الخاص الذي ينطلق فيه مِن كَوْن الفلسفة ليست إبلاغية، وتأملية، ولا استبطانية، وإنما هي خلاَّقة، وثَورية بطبيعتها ، لأنها لا تنقطع أبدًا عن ابتكار مفاهيم جديدة ، والمفهوم بالنسبة لدولوز هو الذي يمنع الفكرة من أن تكون مجرد رأي، ونقاش، وثرثرة .

يقول دولوز عمَّا تعنيه له الفلسفة : (( الفلسفة تعني دائمًا استكشاف مفاهيم جديدة، وأنا لَم أشعر قَط بأيِّ نوع من القلق بخصوص تجاوز الميتافيزيقا، ومَوت الفلسفة، وأعتقد أن للفلسفة وظيفة تظل دائمًا فاعلة في الحاضر، وتتمثل في ابتداع مفاهيم جديدة ، ولا أحد يمكنه أن يقوم بذلك مكانها )) .

دَخل دولوز المجال العملي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، عندما عمل أستاذًا للفلسفة في المعاهد الثانوية، ثُمَّ أستاذًا مساعدًا في جامعة السوربون، ثم باحثًا في مركز البحوث والدراسات الاجتماعية الذي ظل فيه حتى عام 1964 .

في عام 1962 ، تعرَّف على ميشيل فوكو ، وأُعْجِب فوكو بدولوز أيَّما إعجاب حتى إنه قال بعد أن أصدر كتابَيْه " التكرار والاختلاف " ، و" منطق المعنى " بأن القرن العشرين سيكون قرنًا دولوزيًّا ، نِسبة إلى دولوز .

ومِن المراحل المهمة في حياة دولوز كانت لحظة لقائه بفيليكس غيتاري ، حيث عملا معًا في مجال البحوث الفلسفية ، وكان لهما مؤلفات مشتركة أبرزها " ما الفلسفة ؟ " . ويقول دولوز عن تلك التجربة : (( فيليكس غيتاري وأنا لَم نتعاون مثلما يتعاون شخصان . كُنَّا بالأحرى مثل جدولين يلتقيان لِيُكوِّنا معًا جدولاً ثالثًا الذي هو نحن )) .

تأثرَ دولوز كثيرًا بعدد من الفلاسفة ، كان أبرزهم سبينوزا وسارتر، وألَّف كتابًا حول فلسفة سبينوزا، وكذلك قام بتأليف كتب عن فلاسفة آخرين بغرض تأويل نصوصهم الفلسفية، خاصة الذين كان لهم تأثير كبير في الفكر الإنساني .

عانى دولوز من أمراض الجهاز التنفسي مُنذ صغره . وأُصيب بالسُّل في عام 1968 ، وخضع لعملية جراحية في الصدر ( إزالة الرئة ). وعانى من أعراض تنفسية حادة بشكل متزايد بقية حياته. وفي 4 نوفمبر 1995 ، انتحر ، حيث رمى نفْسه من نافذة شَقَّته .

قبل وفاته ، أعلن دولوز عن نيته في تأليف كتاب بعنوان " عَظَمَة ماركس" . وخلَّف وراءه فصلين من مشروع غير مكتمل بعنوان " التجمع والتعدد " . وقد نُشر هذان الفصلان على هيئة مقالات .

تنقسم أعمال دولوز إلى مجموعتين : كتب تُفسِّر أعمال فلاسفة آخرين ، وكتب تتحدَّث عن الاختلاف ، والحِس ، والأحداث ، والشيزوفرينيا ( الفُصام ) ، والسينما والفلسفة .

في أعماله الأخيرة ( 1981 حتى وفاته ) ، يُميِّز دولوز بين الفلسفة والفنون والعلوم ، ويُوضِّح هذه التخصصات الثلاثة المتميزة عبر تحليل الواقع بطرق مختلفة . فالفلسفة تخلق مفاهيم ، والفنون تخلق مجموعات نوعية جديدة من الإحساس والشعور ، وتُنتِج العلومُ نظريات كمية تستند إلى نقاط مرجعية ثابتة مثل سرعة الضوء أو الصفر المطْلق .

يصف دولوز التاريخ بأنه تمثيلية وصيغة من "الرغبة في الإنتاج " ، وهو مفهوم ذو علاقة بالفكر الماركسي في العمل، والدولة القومية ( مجتمع السيطرة المستمرة )، والرأسمالية. كما يفترض وجود مجتمع منفصل ( الهيئة الاجتماعية التي تأخذ فائض الإنتاج ).

وفي كتابه التكرار والاختلاف ( 1969 ) انتقد دولوز جميع الفلسفات التي سعت إلى إلغاء الاختلاف وكأنه شر ، عن طريق إخضاعه لمبدأ التوحيد والهوية الأعلى، ومن هذا المنظور ينتصر ضد أفلاطون للسفسطائيين ، لأنهم حملة الاختلاف. والسفسطائية مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان إبَّان نهاية القرن السادس قبل الميلاد . وقد ظهر السفسطائيون كمُمثِّلين للشعب ، وحاملين لفِكره وحرية منطقه ، ومذهبه العقلي ، وهذا جعلهم يتعرَّضون للهجوم والنفي والقتل . لقد كانوا يَخدمون مصلحة الضعفاء والمساكين والفقراء ، فقُتِل أغلب قادتهم ، وشُرِّد الباقون .

مِن أبرز مؤلفاته  :  نيتشه والفلسفة ( 1962 )  . فلسفة كانت النقدية ( 1963 ) . الاختلاف والمعاوَدة ( 1968 ) . منطق المعنى ( 1963 ) .

29‏/05‏/2021

السلطة المعرفية والعلاقات الاجتماعية

 

السلطة المعرفية والعلاقات الاجتماعية

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

.................

المُجتمعُ الحقيقيُّ لا يُؤَسِّس سُلطةً معرفية من أجل تَغييب العقول ، والتلاعبِ بالمشاعر، واحتكارِ الوَعْي ، وإنَّما يُؤَسِّسها بهدف تحريرِ التفكير من التقليد الأعمى ، وصناعةِ طبيعة لغوية رمزية قادرة على حمل الأشواق الروحية والنزعات المادية . وكُل سُلطة معرفية فاعلة في ذاتها ، وفَعَّالة للعناصر المُحيطة بها ، لا بُد أن تتجذَّر في اللغة دَلالةً منطقية ، ثُمَّ تترسَّخ في السُّلوك تجربةً عقلانية ، ثُمَّ تتكرَّس في الواقع مُمَارَسَةً اجتماعية . وهذه الأطوار الثلاثة تُعيد تعريفَ المجتمع اعتمادًا على التوازن بين الدَّور الوظيفي ( التطبيق العَمَلي ) والغاية المنشودة ( الحُلْم الجَمْعي ) . وتأصيلُ السُّلطة المعرفية في أعماق الواقع المُعاش ، يَكشف الثغراتِ في النظام الشُّعوري للإنسان ، ويُحدِّد الفجواتِ في علاقة المعرفة بالزمان والمكان . وهذا يُوضِّح أهميةَ السُّلطة المعرفية باعتبارها ظاهرةً ثقافيةً ونظامًا اجتماعيًّا قادرًا على كشف العُيوب بُغية تصحيحها . وكُل فِكْر إنساني يَمتلك حركةً تصحيحية ذاتية نابعة مِن كِيانه ، وغَير مفروضة عليه من العناصر الخارجية ، يُمثِّل فِكْرًا إبداعيًّا مُتحرِّرًا من الأوهام والضغوطات والمُسلَّمات الافتراضية ، والمنظومةُ الفكرية الحُرَّة قادرة على تحرير العلاقاتِ الاجتماعية بين البشر ، والعلاقاتِ المادية بين عناصر البيئة ومُكوِّنات الطبيعة . وحريةُ الكِيان ( البُنية القائمة بذاتها والمَوجودة في مجالها الحيوي ) شَرْط لتحرير الكَينونة ( الوجود المُشتمل على الشعور والتفكير والعمل ) . ووَحْدَها الذات الحُرَّة قادرة على تحرير غَيْرها .

2

العلاقةُ بين السُّلطة المعرفية والعلاقات الاجتماعية تُحدِّد طبيعةَ الظواهر الثقافية ، وتُكوِّن الدَّلالاتِ اللغوية الخاصَّة بسياقات المجتمع ، وتبني أُسُسَ تأويل السلوك الإنساني ، مِمَّا يَدفع باتجاه تطويرِ الفكر المعرفي ، وربطِ البُنية العميقة في الفِعل الاجتماعي بالبُنية السطحية ، وهذا يَمنع الصِّدامَ بين الذات والموضوع ، ويُلغي احتماليةَ ظُهورَ التناقض والتعارض بين الشُّعور وامتداده في حَيِّز الزمان والمكان ، ويَحفظ جوهرَ المعنى الوجودي من التَّشَظِّي بسبب ضَغط الأطراف على المركز . والإشكاليةُ الخطيرة التي تُواجِه مسارَ العلاقات بين الإنسان ومعاني الأشياء هي مُحاولة سيطرة الهامش على المَتْن ، وهذا يستلزم اختراع صِرَاع بين اللفظ اللغوي والمعنى الاجتماعي ، مِمَّا يُفْقِد اللغةَ طاقتها الرمزيةَ ، ويُحوِّل العلاقاتِ بين البشر إلى تراكمات فوضوية في مجتمع الشظايا . لذلك ، يجب إبعاد مفاهيم الصِّراع والصِّدام والفوضى عن الإنسان والمجتمع ، لأن هذه المفاهيم تمنعَ عمليةَ البناء الاجتماعي على قاعدة إنسانية صُلبة ، وكُل بناء لا يتأسَّس على قاعدة صُلبة ، سينهار عاجلًا أَمْ آجِلًا .

3

قُوَّةُ التفاعل الاجتماعي تنبع مِن الأفكار المُنضبطة بالوَعْي، التي تَصنع مِن البُنى الشعورية الإنسانية منظومةً أخلاقية عَصِيَّة على التَّمَزُّق والتَّشَظِّي . وصياغةُ مفاهيم أخلاقية مُتماسكة ضِمن الإطار الاجتماعي العقلاني ، تُمثِّل الضَّمانةَ الأكيدة لمنع تحوُّل السُّلطة المعرفية إلى ماهيَّة احتكارية ، تُجرِّد الإنسانَ مِن إنسانيته ، من أجل السيطرة عليه ، والتَّحَكُّم بمساره ، والهَيمنة على مصيره . ولن يتقدَّم المجتمعُ الإنساني إلا إذا تحوَّلت المعرفة الاجتماعية إلى لُغة رمزية تقتل الوَحْشَ داخل الإنسان بُغية إحيائه ، ولا تَقتل الإنسانَ بُغية إحياء النَّزعة الاستهلاكية على أنقاضه .

28‏/05‏/2021

جيفري تشوسر وحكايات كانتربري

جيفري تشوسر وحكايات كانتربري

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.............

وُلد الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر ( 1343_ 1400) في مدينة لندن ، لعائلة من الطبقة الوسطى. عمل كمراقب للجمارك ( 1374_ 1386).ثم عمل ككاتب لأشغال الملِك( 1389_ 1391) . يُعتبر أبرز الشعراء الإنجليز في العصور الوسطى، قبل عهد شكسبير، وأكبر الشعراء الهزليين في تاريخ الأدب الإنجليزي . لُقِّب بأب الشِّعر الإنجليزي .

كان في شِعره ينتقد أسلوب الْمُثُل الرفيعة. وانتقدَ الكنيسة في عمله المعروف باسم" حكايات كانتربري " ، وذلك بتصويره للراهب والناسك والداعي للمُثول أمام الكنيسة .

كان مُلِمًّا بالكلاسيكية اللاتينية واللاهوت والفلسفة والفلك والقانون المدني ، وكان يُتقن اللغات الفرنسية والإيطالية واللاتينية . وكان أول شاعر إنجليزي يقوم باستعمال الوزن الملحمي في شِعره . وعُرِف بغزارة إنتاجه وتنوُّعه ، لذلك يُعَد مِن مُؤسِّسي الأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية في فترة انتقال إنجلترا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث الذي بدأ في عصر النهضة.

عمل في البلاط الملكي منذ يفاعته ، فقد كان والده تاجرًا من الطبقة المتوسطة ، وكانت له علاقات جيدة في البلاط ، وسعى لإدخال ابنه إليه ليضمن له تعليمًا جَيِّدًا .

التحقَ بالجيش بالإنجليزي في فرنسا مع الملِك إدوارد الثالث،وعُيِّن عُضوًا في البرلمان عن كِنت، كما عُيِّن مديرًا للجمارك في ميناء لندن ، وصار المسؤول الأول عن المصارف والموانئ في البلاط . يُقسَّم إنتاج تشوسر الأدبي إلى ثلاث مراحل أساسية : مرحلة التأثر باللغة الفرنسية وآدابها التي يُقدَّر أنها استمرت حتى 1372. ومرحلة التأثر باللغة الإيطالية وآدابها ( 1373) . والمرحلة الثالثة التي ساد فيها تأثير اللغة الإنجليزية على كتاباته ( 1386). وأرسى بها قواعد اللغة الإنجليزية الحديثة . ويعتبر النقاد هذا التقسيم ضروريًّا لفهم تطور أدب تشوسر ، من حيث تأثره باللغة والموضوعات والأجناس الأدبية الفرنسية والإيطالية حتى توجُّهه بعدها للتركيز على اللغة الإنجليزية وعلى موضوعات تخص مجتمعه، ليضع بهذا أنماطًا جديدة شَكَّلت أسس الأدب الإنجليزي. وتتداخل هذه المراحل فيما بينها ، خاصة في المرحلة الثالثة .

وعلى سبيل المثال ، تُظْهِر " حكايات كانتربري " _ على انتمائها إلى المرحلة الإنجليزية _ تأثرًا واضحًا بالنماذج الشعرية الفرنسية والإيطالية ، التي تمتلئ بالهجاء والحكايات العاطفية . وكتب تشوسر في هذه المرحلة أول قصيدة طويلة بعنوان " كتاب الدوقة " ( 1369) .

ابتكرَ تشوسر أسلوبه المتميز باستخدامه للمكان والمشهد اللذين يُضفيان طابع الحلم على القصيدة ، وبإبداعه شخصيات واقعية ذات بُعد نفسي عميق ، بالإضافة إلى مزج الرثاء بالرؤيا .

تعلَّمَ تشوسر من الأدباء الإيطاليين التقنية والبنية السردية في الشِّعر، وأهمية إعطاء الشخصيات تفرُّدًا وعُمقًا دراميًّا . وأدركَ جمالية القوافي وتنوُّع النغمات فيها ، والتعبيرات القريبة من الكلام الشعبي . واتَّضحَ كُل هذا في تطور أسلوبه وقوافيه . كتبَ تشوسر أهم قصائده في المرحلة الثالثة من إنتاجه الأدبي ، حين بدأ يُعالج موضوعات تخص التراث والمجتمع في إنجلترا، وحين بدأ يُطوِّر إنجليزية عصره إلى حد كبير باتجاه الإنجليزية الحديثة. حتى إن عباراته وجُمله بدأت تُستخدَم في حديث الناس اليومي . وتمخَّضت هذه المرحلة عن أشهر قصائده " حكايات كانتربري " ، التي يلمس القارئ فيها تغيرًا ملحوظًا عمَّا سبقها من كتاباته ، فيما يخص اللغة والأسلوب الأدبي والموضوعات وثقافة المجتمع وتقاليده وقضاياه ، خاصة في ظل الوعي الوطني الجمعي ، الذي سادَ بعد حرب المئة عام بين إنجلترا وفرنسا ، وتحوُّل المجتمع الإنجليزي من النظام الإقطاعي إلى البرجوازي ، وهجرة الفلاحين إلى المدن .

وتتحدث " حكايات كانتربري " عن فريق من الْحُجَّاج الذين يجتمعون في لندن ، وينطلقون معًا في سفر طويل إلى مزار ( القديس توماس بيكيت ) في كانتربري ، ويتفقون على أن يرويَ كُلٌّ منهم قصة في طريقَي الذهاب والعودة إلى لندن. ومع عدم توافق عدد القصص مع عدد الْحُجَّاج، ومع أن تشوسر لَم يكتب عن طريق العودة، إلا أنه أظهرَ من خلال القصص المروية حقائق كثيرة عن المجتمع الإنجليزي . واستطاعَ في هذه القصيدة الطويلة أن يُدْلِيَ بِدَلْوه الزاخر مِن معرفته الواسعة بالمجتمع الإنجليزي بسلبياته وإيجابياته وتناقضاته، ومِن اطلاعه وخبرته العميقة بالنفس البشرية وتعقيداتها . ويُصَوِّر تشوسر هذه الملامح بكثير من روح السخرية الطريفة التي جعلت من " حكايات كانتربري" مرجعًا شعبيًّا مُحَبَّبًا ، تُوازي في أهميتها " ألف ليلة وليلة " في الأدب العربي.

وقد نجح تشوسر في اختياره للحُجَّاج شُخوصًا ، إذ أتاحَ له هذا تنوُّعًا في الشخصيات والقصص المروية، التي شملت طيفًا واسعًا من الأنماط الأدبية (المواعظ الدينية ، والحب العذري، والحكايات الرمزية، وحكايات الحيوانات الرامزة ، والأساطير ) .

عالجَ تشوسر واقع الحال في مجتمعه ، من خلال رسمه لشخصيات متنوعة ذات فردية وعُمق نفسي . وقد قَدَّرَ تشوسر جميعُ مَن جاء بعده من الأدباء والقُرَّاء على حَد سواء ، كُلٌّ حسب ذوقه وتوجهاته . وكانَ أولَ مَن دُفِن في زاوية الشعراء في مقبرة العظماء في دَير وستمنستر في لندن .

27‏/05‏/2021

سالينغر والحارس في حقل الشوفان

 

سالينغر والحارس في حقل الشوفان

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............


     وُلد الروائي الأمريكي جيروم ديفيد سالينغر ( 1919_ 2010 ) في مانهاتن ، في مدينة نيويورك . كان والده يهوديًّا من أصل بولندي ، وعمل في مجال بيع الجبن . وقامت والدته بتغيير اسمها إلى ميريام ، وتحوَّلت إلى اليهودية .

     درس سالينغر في المدارس الحكومية في الجانب الغربي بمانهاتن . ثم انتقل إلى مدرسة مكبري الخاصة في الصف التاسع والعاشر . مثَّل العديد من المسرحيات المدرسية ، وأظهر موهبة درامية رغم مُعارضة والده لأن يصبح ابنه مُمَثِّلاً . التحقَ بأكاديمية وادي فورغ العسكرية في وين الواقعة في بنسلفانيا . وهناك كتب قصصه في غُرفته على مصباح ضئيل . ثُمَّ التحق بجامعة نيويورك عام 1936 ، وغادر الربيع التالي . وفي الخريف ذاته دفعه والده لتعلم تجارة اللحوم . وأُرسِل ليعمل في شركة في فيينا ( عاصمة النمسا)، وغادرها قبل وقوعها في أيدي النازيين بشهر .

     في آذار 1938 ، درس في كلية أورسينوس في بنسلفانيا لفصل دراسي واحد فقط . وفي عام 1939 حضر درسًا مسائيًّا للكتابة في جامعة كولومبيا. بدأ سالينغر في عام 1941 يُرسل قصصًا لمجلة نيويوركر ، والتي رفضت عِدَّة قصص له ، مِن بينها:" غداء لثلاثة "، و " أنا ذهبت للمدرسة مع هتلر " . لكنها قبلت قصته " عصيان ماديسون" وهي قصة عن مراهق غير مُبالٍ بأحداث ما قبل الحرب . خلال حملة النورماندي ضد ألمانيا النازية ، التقى سالينغر بإرنست همنغواي ، الكاتب الذي تأثرَ به، والذي عمل كمراسل حرب في باريس. وقال سالينغر إن لقاءهما كان من ذكرياته الإيجابية عن الحرب. كما عمل كَمُستجوِب لأسرى الحرب ، نظرًا لتفوُّقه في الفرنسية والألمانية . عانى سالينغر من صدمة نفسية سيئة بعد الحرب . وأُدخِل المستشفى للعلاج النفسي بعد حادثة سقوط برلين . وقد أخبر ابنته في إحدى المرَّات أن " المرء لا يتخلص أبدًا من رائحة اللحم المحترق في أنفه مهما عاش " . وقد دارت بعض أعماله حول هذه التجربة .

     في أواخر الأربعينيات اعتنق سالينغر الزِّن ( طائفة من البوذية اليابانية ) . وفي عام 1948 ، أرسل قصته " يوم مثالي لسمك الموز " إلى مجلة نيويوركر ، التي كانت سببًا في شُهرته .  

     في الأربعينيات ، تحدَّثَ سالينغر مع الكثيرين حول رواية عن هولدن كولفيلد ، بطل قصة " عصيان ماديسون ". وقد نُشِرت في 16 تموز 1951 تحت عنوان " الحارس في حقل الشوفان".

     كانت الرواية في الأصل مُوجَّهة للقُرَّاء البالغين، لكنها أصبحت ذات شعبية كبيرة بين القُرَّاء المراهقين بسبب محاورها الرئيسية مِثل : اليأس والعزلة خلال مرحلة المراهقة . تُرجِمت الرواية إلى أغلب لغات العالم ، وبلغت مبيعاتها أكثر من 65 مليون نسخة حول العالم. ويُباع منها حوالي رُبع مليون نسخة سنويًّا . وقد أصبح بطل الرواية " هولدن كولفيلد " رمزًا لتمرد المراهقة . وتُعالِج الرواية قضايا مُعقَّدة مِثل : الهوية والانتماء والخسارة والعلاقات والعُزلة . وفي عام 2005 ، وضعت مجلة التايم الرواية ضمن قائمتها لأفضل مئة رواية مكتوبة بالإنجليزية مُنذ عام 1923 .

     تدور الرواية بشكل أساسي حول المراهق هولدن كولفيلد ( 17 عامًا ) . يزدري مجتمعه، ويرى أن الأفراد جميعًا غارقون في نوع من الزيف والغباء. يَتعرض كولفيلد للطرد من مدرسة بنسي الداخلية، بسبب رسوبه في كل المواد عدا الإنجليزية. هكذا تبدأ الرواية، حيث يمر هولدن عبر مجموعة من المواقف التي تُعطي فكرة عامة عن أفكاره. فيلتقي بعدد من الأفراد، منهم مُدرِّس التاريخ الْمُسِن، فتيات وفتيان في مثل عُمره. ومُدرِّس الإنجليزية الشاب الذي درَّسه سابقًا، كل هذا بعد تركه مدرسة بنسي قبل الموعد المسموح له بعدة أيام، حيث يقيم بفندق متحاشيًا لقاء والديه قبل معرفتهما بنبأ طرده من المدرسة .

     خلال الفترة ( 1961_ 1982 ) كانت الرواية أكثر الكتب الخاضعة للرقابة في المكتبات والمدارس الثانوية في الولايات المتحدة. تَمَّ منع الكتاب في مدارس إساكوه الثانوية عام 1978 ، واعتُبِر كجزء من " مؤامرة شيوعية شاملة " . وفي عام 1981 ، كانت الرواية أكثر الكتب خصوعًا للرقابة وثاني أكثر الكتب تدريسًا في مدارس الولايات المتحدة في آنٍ واحد .

     مِن أهم الانتقادات الموجَّهة للرواية،استخدام هولدن للألفاظ النابية بشكل متكرر، والإيحاءات الجنسية، وازدراء الدين ، وتقويض القيم العائلية والقواعد الأخلاقية ، وكَوْن كولفيلد قدوة سيئة، وتشجيع التمرد ، والترويج للتدخين وشرب الكحول والكذب . وقد تراوحت ردود الأفعال حول الرواية ، من الإعجاب الشديد إلى التَّحفظ على جُرأتها بالنسبة لذلك الوقت .

يظهر المراهقون في أغلب أعمال سالينغر. مِمَّا جعله مُفَضَّلاً لهذه الفئة مِن القُرَّاء . يستخدم سالينغر تقنيات: الحديث الداخلي،والخطابات، والمكالمات الهاتفية، مِمَّا يُظهِر موهبته في بناء الحوار. لقد عُرف سالينغر بروايته " الحارس في حقل الشوفان " التي صنعت مجده الأدبي ، وشُهرته العالمية. وعلى الرغم من وجود أعمال أدبية أخرى له ، إلا أنه يُمكن اعتبار هذه الرواية هي بَيضة الديك . والجدير بالذِّكر أن سالينغر لَم ينشر أي عمل أدبي بعد عام 1965 .

26‏/05‏/2021

جيرمي بنثام ومبدأ النفعية

 

جيرمي بِنثام ومبدأ النفعية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..............

وُلِد الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بِنثام ( 1748 _ 1832 ) في لندن . عُرِف مُنذ صِغره بذكاء خارق ، فقد تمكَّنَ مِن تعلُّم اليونانية واللاتينية، ولَم يتخطَّ بعد عامه الرابع ، ولُقِّب بـِ " الفيلسوف " مُذ كان في الخامسة مِن عُمره .

حصل على شهادة الماجستير من جامعة أكسفورد عام 1766 ، ليكون أصغر مُتخرِّج عَرَفته الجامعات الإنجليزية في ذلك الوقت . وكان من المفترض أن ينصرف إلى مهنة المحاماة، إلا أنه اهتمَّ بالكيمياء أكثر، وشرع في إرساء مذهب فلسفي عُرِف باسم " النفعية "، وهو ما تجلى في كتاباته انطلاقًا مِن "شذرة حول الْحُكم" ( 1776 )، الذي أكَّدَ فيه أن الْحُكم لا تُبرِّره إلا منفعته.

وكان لمواقفه فيه تأثير كبير في الإصلاحات التي شهدها التشريع الإنجليزي آنذاك . وبالإضافة إلى هذا ، فقد سعى إلى إدخال تعديلات وإصلاحات على قوانين العقوبات والقانون الدستوري ، وعمل على إقامة التشريع على أسس عِلمية. وتجلى ذلك في كُتبه اللاحقة، وفي مقالاته التي نشرها خاصة في مجلة وستمنستر التي كان له دور فعَّال في إنشائها ( 1823_ 1824 ) ، ودعا من خلالها إلى الإصلاح الدستوري ، وإصلاح حالة السجون في إنجلترا .

ومِن روسيا ، أرسلَ بنثام عام 1787 إلى إنجلترا مبحثه " دفاع عن الرِّبا " ، وعارض الإدانة اللاهوتية للربا ( الفائدة ). ففي مجال الاقتصاد ومجال السياسة يجب أن يُترَك الفرد حُرًّا في تنفيذ ما يَراه وَفْقَ أحكامه على أن يكون هذا في صالح المجتمع .

كان لترجمة كتاباته إلى الفرنسية صدى كبير في فرنسا ، وخاصة كتابه " مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع " (1789) ، أي بعد صدوره بالإنجليزية بثلاثة أعوام ، إذ منحته الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1792 ، لقب " مواطن فرنسي " تكريمًا له . وفي هذا الكتاب ، عرض بنثام نظريته الأخلاقية في المنفعة ، وقوامها مبدأ السعادة القصوى ، أو القَدْر الأكبر من السعادة ، وهو مطلب فردي وجماعي في آن ، فالكُل يبحث عن أكبر قَدْر مِن السعادة . وانطلاقًا من تحليله للعلاقة بين ثنائية اللذة والألم من جهة ، والعقل والمنطق من جهة أخرى، وبين المنفعة الفردية والمنفعة الجماعية، انتهى بنثام إلى تأكيد شمول المنفعة الجماعية للمنافع الفردية، وإثبات قيام السعادة الإنسانية القصوى على المراعاة العامة للقانون وقواعده المعتبرة لمبدأ المنفعة . فَمِثل هذا القانون كفيل بتحقيق الانسجام والتناغم بين صالح الفرد والصالح العام .

لقد كان كتابًا صعبًا مُدَعَّمًا بصرامة بمئات التعريفات لدرجة تترك القارئ غير المختص مُشَوَّشًا، لكن بنثام كان يأخذ على عاتقه عملاً عقليًّا مُجْهِدًا ، فقد كان يهدف إلى إحلال الأخلاق الطبيعية محل اللاهوت، وإقامة السلوك والقانون على أسس قوامها صالح المجموع أو الوطن أكثر من إقامتها على أسس قوامها إرادة السُّلطة التنفيذية أو مصالح طبقة من الطبقات، وتحرير القانون والسُّلوك من فروض الدِّين من ناحية ، ومن الأحلام الثورية من ناحية أخرى . وهذه الأسس الجديدة _ لكلٍّ مِن الأخلاق والقانون _ قامت على مبدأ النفعية : فائدة الفِعل للفرد، وفائدة العادة للجماعة ، وفائدة القانون للشعب ، وفائدة الاتفاقات الدولية للجِنس البشري.

ذهب بنثام إلى أن كُل النُّظم تسعى لتحقيق السعادة وإبعاد الألم . وعرَّف السعادة بأنها ترضية، وعرَّف الألم بأنه إزعاج سَواء للبدن أو النفس . والنفعية هي ميزة تحقيق السعادة أو اجتناب الألم ، والسعادة هي استمرار السُّرور . والنفعية لا تحتاج لِقَصْرها على الفرد ، فقد تكون _ جُزئيًّا أو أساسًا _ للأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الجِنس البشري . وقد يجد الفرد ( من خلال غرائزه الاجتماعية ) السعادة أو تجنُّب الألم، في ربط ما يُرضيه بما يُرضي الجماعة التي ينتمي إليها. وبالتالي، إن الهدف النهائي والمِحَك الأخلاقي لكل الأعمال والقوانين ، هو مدى إسهامها في تحقيق أكبر قَدْر من السعادة لأكبر عدد .

لَم يَدَّعِ بنثام أنه أصل هذه الصيغة النفعية . لقد أعلن بصراحته المعتادة أنه وجد أساسها في كتاب جوزيف بريستلي " مقال عن المبادئ الأساسية للحُكم " ( 1768 ) .

في إنجلترا ، أدان المحافظون مبدأ النفعية ، باعتباره مبدأ غير وطني وغير مسيحي ، وأنه مبدأ مادي . ودافعَ بعض الكُتَّاب ذاكرين أن أفعالاً كثيرة _ مِثل الحب الرومانسي والأبوي والتضحية بالنفس وتبادل المساعدة _ لا تنطوي على حسابات واعية بإرضاء الذات ( أو إشباع رغبات الذات ) ، واعترى الفنانون الإحباط للحُكم على أعمالهم الفنية بمقياس المنفعة . لكن الجميع فيما عَدا الموظفين الحكوميين ، وافقوا على أن النفع الذاتي هو خُلق كل الحكومات وسياساتها إذا نَحَّيْنا جانِبَي الادِّعاء والخداع .

وبينما كان بنثام يُحْتَضَر، كان يُفكِّر في جعل جُثته مفيدة لأكبر عدد من الناس ، فأوصى بتشريح جثته في حضور أصدقائه . وحدث هذا بالفِعل، وبعد تشريحها مُلِئَت جُمجمته بالشمع ، وطُلِيَت به، وتَمَّ إلباس هيكله العظمي الملابس الداكنة التي اعتاد بنثام ارتداءها، ووُضِع بشكل مُنتصِب في صندوق زُجاجي في الكلية الجامعية في كامبردج ، ولا يزال موجودًا حتى الآن .

25‏/05‏/2021

جون ميلتون والفردوس المفقود

 

جون ميلتون والفردوس المفقود

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................

     وُلِد الشاعر الإنجليزي جون ميلتون ( 1608_ 1674) في إحدى ضواحي لندن ، ونشأ في بيئة يغلب عليها طابع التدين الممتزج بِقَدْر كبير من الالتزام، وكذلك عُرف عن هذه الأسرة حبها الشديد للعِلم . ويذكر التاريخ أن جَدَّه عانى الكثير في عصر الملكة إليزابيث ، وذلك بسبب اعتناقه للمذهب الكاثوليكي . ومِن المعروف أيضًا أن أباه كان شغوفًا بالموسيقى ، فضلاً عَن كَونه مؤلفًا ومُلَحِّنًا موهوبًا ، وربما كان حب ميلتون للموسيقى نابعًا من التصاقه الدائم بأبيه، وبذلك امتدت روافد العطاء من الأب للابن . ولاشك أن الموسيقى تركت بصمات_ لا يمكن تجاهلها _ على آراء ميلتون ، حيث كان يرى أنها وسيلة مهمة لجعل الشعر أكثر فاعلية وتأثيرًا .

     عاشَ ميلتون حياة مليئة بالمتاعب والمآسي المفجعة ، فقد كانت المصائب تأتي تِباعًا ، الواحدة تِلْو الأخرى، حيث فقد ابنه الأصغر في سنة 1652، ثُمَّ ما لبث أن فقد زوجته في العام نَفْسه، وبعد ذلك يستمر مسلسل الأحزان حيث يفقد بَصره في العام نفسه، وبعد أربع سنوات يتزوج مرة أخرى ، ويفقد زوجته الثانية وطفلتها الرضيعة . وفي سنة 1663 يخوض ميلتون غمار تجربة جديدة حيث يرتبط بإحدى السيدات ، ويظل يتخبط في هذه الحياة حتى وفاته .

     كان مُهْتَمًّا بكتابة المقالات والقصائد . قصيدته الأكثر شهرة "الفِرْدَوْس المفقود " ، التي تُعتبَر مِن أعظم الأعمال الشِّعرية في اللغة الإنجليزية . تلقى ميلتون تعليمه في كامبردج في الفترة ( 1625_ 1632) . وكان طيله حياته شخصية نشطة في القضايا السياسية والدينية . وخلال الحرب الأهلية الإنجليزية أصبح في صف أوليفر كرومويل المعارض للحُكم الملكي . واستطاع الفرار من عقوبات حتمية بعد رجوع الحكم الملكي في عام 1660 .

     بعد إصابته بالعمى في عام 1652 ، كرَّس نفسه لكتابة قصيدة "الفردوس المفقود" التي تحكي قصة الشيطان وهبوط آدم وحوَّاء . وبعد أربع سنوات نشر قصة انتصار المسيح على إغراءات الشيطان في "استرداد الفردوس " ، والدراما " عذاب شمشون " .

     في عام 1638 قام ميلتون برحلة حج مُدعَّمة بوثائق إلى روما بهدف الاتصال برجال الطبقة المستنيرة ، وتبادل الأفكار معهم ، وكان قد اجتمع أيضًا مرات عديدة بغاليليو خلال خضوعه للإقامة الجبرية . وكان لرحلته إلى إيطاليا أبلغ الأثر في نضوجه الأدبي ، فلم يكن مجرَّد زائر جاء كي يستمتع بجزء من وقته في ربوع هذه البلاد ، ولكنه كان أشبه ما يكون بسفير لثقافته .

     وقد كان محظوظًا أكثر من أي مسافر آخر ، لأنه كانت لديه القدرة على التحدث بطلاقة باللغة اللاتينية ، مِمَّا أتاح له فرصة ذهبية للاحتكاك بالأدباء والفنانين الإيطاليين، حيث شارك في كثير من المناقشات الفلسفية والأدبية التي كانت تدور رحاها في ذلك الوقت .

     كان ميلتون مُولعًا بالحرية ، وأَوْلاها اهتمامًا كبيرًا ، وكان يقول إن الكفاح من أجل الحرية يتمثل في لغة التمرد ، وربما كان في ذلك متأثرًا بالأفكار السائدة في عصره حيث كانت حياة الفرد المسيحي عبارة عن صراع تقليدي يتم بين ثنايا النفس البشرية التي كانت أشبه ما تكون بميدان للقتال. وطرفا المعركة هما المسيح والشيطان،وكانا يتصارعان من أجل الفوز بهذه النفسية البشرية. ويرى ميلتون أن العقل الذي منحه الله للإنسان تظهر آثاره في قدرة الإنسان على الاختيار، ومن هنا ، فإن الفضيلة تعتمد على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة .

     إن ميلتون يهتم في كتاباته بالتأثيرات المختلفة للحرية ، والدليل على ذلك هو أن الهيكل الرئيسي في قصيدته " الفردوس المفقود " يتمثل في الطغيان . وفي هذه القصيدة يرى الشيطان أن كلمة الخضوع تعني الاحتقار ، وبهذا أصبح سجينًا لهذه الفكرة التي أصبحت الشغل الشاغل له ، وبذلك أثَّرت كثيرًا في قراراته . فأصبح ينظر لنفسه أنه شخصية مُحْتَقَرَة ، كما كان المجتمع ينظر إليه على أنه قائد مهزوم . ويعتقد ميلتون أن الفرد الصالح قادر على أن يقوم باتخاذ قرار منطقي وعقلاني في كل لحظة، وفي أي موقف يتعرض له في حياته اليومية . ويتَّضح ذلك جَلِيًّا أيضًا في " الفردوس المفقود". ومن الطبيعي أن تكون معظم شخصياته تعكس نجاحًا منقطع النظير في مقاومة الإغراءات بنجاح، والقدرة على تبني اختيار بين اتجاهين متناقضين ( الخير والشر ) .

     وهذا الموضوع يشغل جزءًا كبيرًا من مساحة أعماله الأدبية ، ولاشك أن اختياره للشِّعر الْمُرْسَل في " الفردوس المفقود " يبدو أكثر من مجرد اختيار جمالي ، فهو يرى أن الحرية مثل الجنة ، تَمَّ فقدها ، ولكن يمكن استعادتها مرة أخرى .

     تأثَّرَ ميلتون إلى حد كبير بالنظرة الدينية للمرأة ، فلم يُقدِّم الحب الجسدي كما فَعل غَيره، فقد كان بعيدًا كل البعد عن التصوير الجسدي، وهذا ربما يكون متناقضًا مع ظروف عصره . وَمِن الواضح من كتاباته أنه لَم يستخدم ألفاظًا مثيرة في تجسيد تأوهات العاشقين المعذَّبين .

     كان ميلتون صاحب مدرسة أدبية في الشعر ، ويعتبره النقاد مِن بين عُظماء الشعر الإنجليزي، لدرجة أنهم وضعوه جنبًا إلى جنب مع شكسبير، وهذا خير دليل على موهبته الأدبية الفذة وقدراته الكبيرة في هذا المجال.

24‏/05‏/2021

جون ماكسويل كويتزي ولعنة الاستعمار

 

جون ماكسويل كويتزي ولعنة الاستعمار

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

.................


وُلد الروائي الجنوب أفريقي جون ماكسويل كويتزي ( 1940_ ... ) في كيب تاون . كان والده مُحاميًا وموظفًا حكوميًّا في بعض الأحيان . حصل على جائزة نوبل للآداب عام 2003، بسبب أشكاله الأدبية التي لا حَصْر لها ، وتصويره لمشاعر الغربة داخليًّا وخارجيًّا ، وتركيزه على الطبيعة الأخلاقية للعمل . وحسب تقرير لجنة نوبل : (( فإن شخصيات كويتزي تنتصب خلف نفسها في اللحظات الحاسمة ، لابثة بلا حراك ، عاجزة عن المشاركة في ما تقوم به هي نفسها من أفعال. غير أن السلبية ليست ذلك السديم القاتم الذي يبتلع الشخصية فَحَسْب، بل هي أيضًا الملاذ الأخير المفتوح أمام الكائنات البشرية وهي تتحدَّى نظامًا قمعيًّا ، عن طريق الحيلولة دون إخضاع نفوسها لِمَا يُبيِّته ذلك النظام. وفي استكشاف الضعف والهزيمة ينجح كويتزي في التقاط الومضة المقدَّسة داخل الإنسان )) .

أصبح كويتزي ثاني كاتب جنوب أفريقي يفوز بالجائزة بعد نادين غورديمير . وقد قدَّم مساهمة استثنائية في مجال الأدب ، ووضع جنوب أفريقيا على الساحة العالمية.

بدأ حياته الروائية عام 1974، ونشأ في بيت يتحدث الإنجليزية رغم أصوله الهولندية ، وهو يتحدث اللغتين بطلاقة . يُعتبَر أول كاتب يفوز بجائزة بوكر الأدبية البريطانية المرموقة مرتين .

درس كويتزي في كلية سانت جوزيف ، وهي مدرسة كاثوليكية في إحدى ضواحي كيب تاون . وحصل على البكالوريوس في الآداب مع مرتبة الشرف في اللغة الإنجليزية عام 1960. وحصل على الدكتوراة من جامعة تكساس عام 1969.

ومُنذ عام 1968، سعى إلى الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة ، وهي عملية لَم تنجح في النهاية ، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى تورُّطه في الاحتجاجات ضد الحرب في فيتنام .

مِنَ المعروف أن كويتزي يحب العُزلة والانعزال والابتعاد عن الناس ، ويَتجنَّب الدعاية لنفسه وأعماله ، وهو يَتمتَّع بالانضباط الذاتي كالرُّهبان ، والتفاني في العمل . إنه لا يُدخِّن ، ولا يأكل اللحوم ، ويسير مسافات طويلة للحفاظ على لياقته .

هاجمَ كويتزي سياسة الفصل العنصري في بلاده، وتَحَدَّثَ عن محدودية الفن في مجتمع جنوب أفريقيا ، حيث انتشار العلاقات المشوَّهة بين البشر ، واعتبرَ الأدبَ في بلاده هو أدب العبودية ، وأدب أقل مِن الإنسان تمامًا ، وهو بالضبط نوع الأدب الذي يَكتبه الناس في السجن .

ودعا حكومة جنوب أفريقيا إلى التخلي عن سياسة الفصل العنصري . كما عَبَّر كويتزي عن مَيْلِه القوي والطاغي إلى تضمين الرواية في التاريخ ، وقراءة الروايات بوصفها استقصاءات تخييلية في القوى والظروف التاريخية الحقيقية .

وأيضًا ، اعتبار الروايات التي لا تُؤدِّي هذا الاستقصاء في ما يُعَدُّ قوى وسياقات تاريخية حقيقية ، بمثابة روايات تفتقر إلى الجِدِّية . وهذا الأمر شديد الأهمية ، لأن تاريخ جنوب أفريقيا مكتوب على نَحْوَ مُتَحَزِّب تمامًا للأبيض ، ومُتَحَيِّز للمُسْتَعْمِر .

إن روايات كويتزي تسعى إلى تدوين مرحلة الاستعمار العريضة ، الذي لا يُشكِّل تاريخ جنوب أفريقيا سوى بعض فصولها ، فالوضعُ الجنوب أفريقي مُجرَّد شكل واحد لمرحلة تاريخية واسعة ذات علاقة بالاستعمار .

لَم ينتمِ كويتزي إلى أي حزب سياسي ، ولَم يُعلِن عن تَوَجُّه سياسي مُحدَّد ، مع أنه أشارَ إلى السياسة في عمله . وقد كتب عن طفولته ومَاضيه ، ومشاهد العنف والقسوة التي شاهدها في مجتمعه القائم على العنصرية والظلم والاضطهاد والتمييز حسب اللون والعِرق .

مِن أبرز رواياته: في قلب البلاد ( 1977). في انتظار البرابرة ( 1980) . إليزابيث كوستيلو ( 2003). طفولة يسوع ( 2013) .

23‏/05‏/2021

جون لو كاريه والجاسوسية في الحرب الباردة

 

جون لو كاريه والجاسوسية في الحرب الباردة

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................


     وُلد الكاتب الإنجليزي جون لو كاريه ( 1931 _ 2020 ) في بول ، دورست ، إنجلترا . اسمه الحقيقي: ديفيد جون مور كورنويل .

     بدأ لو كاريه دراسة اللغات الأجنبية في جامعة بيرن،سويسرا خلال الفترة(1948_1949) ثم انضمَّ إلى سلاح الاستخبارات في الجيش البريطاني في عام 1950 . وكانت وظيفته هي مقابلة الناس الذين عبروا الستار الحديدي إلى الغرب ، من أجل أن جمع معلومات استخباراتية منهم . عاد بعد سنتين إلى المملكة المتحدة ، ودرس في جامعة أكسفورد .

     بالإضافة إلى الدراسة، كان يعمل سرًّا لجهاز الأمن البريطاني ، ويتجسَّس على مجموعات أقصى اليسار. تخرَّج في جامعة أكسفورد عام 1956 ، ثم عمل أستاذًا للفرنسية والألمانية في كلية إيتون في بيركشاير لمدة عامين . وأصبح ضابطًا في جهاز الأمن البريطاني عام 1960 ، ونُقِل إلى جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية .

     عمل لو كاريه في السفارة البريطانية في بون وهامبورغ ( ألمانيا) حتى عام 1964. لكن هويته كُشِفت لجهاز المخابرات في الاتحاد السوفييتي ، مِن قِبَل ضابط مخابرات بريطاني منشق ، فترك جهاز الاستخبارات، وقرَّر أن يُصبح روائيًّا .

     نشر روايته الأولى " دعوة للموتى " ( 1961 ) تحت اسم مستعار " جون لو كاريه " ، وهو الاسم الذي كان يستخدمه حين عمل لحساب جهاز الاستخبارات البريطانية في أوروبا . والرواية عبارة عن قصة جواسيس من ألمانيا الشرقية ، يُمارسون نشاطهم في بريطانيا .

     خلال حياته المهنية ، كتب لو كاريه أكثر من عشرين رواية . تَمَّ تحويل العديد منها إلى أفلام ناجحة . وتُركِّز كثير من رواياته على التشويق والتجسس والبيئات السياسية في عصر الحرب الباردة .

     تُعتبَر روايته " الجاسوس الذي جاء من البرد " ( 1963 ) أفضل أعماله على الإطلاق ، وقد أصبحت من أكثر الروايات مبيعًا على مستوى العالم . وكثير من النُّقاد يعتبرونها واحدة من أعظم روايات التجسس على الإطلاق . وهي تُركِّز على الصراع الداخلي بدلاً من الصراع الخارجي .

     استغل لو كاريه تجربته خلال الحرب الباردة في أجهزة الاستخبارات لخلق عالم خيالي، وشديد الغموض ، ومرتبط بفساد المؤسسات .

     تتميَّز روايات لو كاريه بسرد مغامرات الموظفين السياسيين الذين هُم على بيِّنة من الغموض الأخلاقي لعملهم . وتستعرض رواياته النواحي النفسية والعاطفية للشخصيات، وتخوض في الأحداث الدرامية المتسارعة.

     وهذه المواضيع تتكرَّر في رواياته من أجل معرفة الخير من الشر . تمامًا كما في العالَم الحقيقي. والغموض الأخلاقي للسياسة هو الدرس الأكثر أهمية ، الذي يُؤخَذ من أعمال لو كاريه.

     يُعتبَر لو كاريه واحدًا مِن أكثر الكُتَّاب تأثيرًا في عصرنا . وقد ساهم في تحليل السياسة ضمن فترة الحرب الباردة ، وتوضيح الغموض الأخلاقي الذي يُحيط بمصائر الأفراد والجماعات .

مِن أبرز أعماله : الجاسوس الذي جاء من البرد ( 1963) . مُصلح خياط جندي جاسوس ( 1974 ). البيت روسيا ( 1989 ) . خيَّاط بنما ( 1996) . البستاني المخلص ( 2001).