شُعورُ
الإنسان بكِيانه يُجسِّد مَعناه الوجودي ، ويُمثِّل جَوْهَرَ العلاقات الاجتماعية ،
وهذا الجوهر يتمُّ صَقْلُه تحت ضغط العناصر الحياتية ، ويكتسب شرعيته ووجوده
المركزي في ظِل الأزمات . وكما أن الشدائد تكشف عن معادن الرِّجال ، وتُسقِط
الأقنعةَ ، وتُظهِر الوُجوهَ الحقيقية ، كذلك الأزمات تَكشف عن ماهية الجوهر
الاجتماعي ، وتُوضِّح دَوْرَه في دينامِيَّة التاريخ ( تحرُّك التاريخ في كُل
الاتجاهات ضِمن سُلطة الأمر الواقع للوصول إلى الأهداف الروحية والغايات المادية )
.
والتَّحَدِّي
المصيري أمام الجوهر الاجتماعي يتمثَّل في حمايته من التَّشَظِّي والاندثار،لأن
هذا الجوهر_ بما يمتلكه من شرعية إنسانية ومشروعية اجتماعية _ يتعرَّض لضغط هائل
بفِعل تضارُب المصالح في المجتمع، واختلاف التيارات الفكرية ، وتعدُّد فلسفات التعبير
عن الذات والآخَر . وكُل إنسان يَعتبر نَفْسَه سائرًا على الطريق الصحيح، وكُل
جماعة تعتقد أنها تمتلك الحَقَّ المُطْلَقَ والحقيقةَ الشاملة. وإذا اعتقدَ
الإنسانُ أنَّه المالك الحصري للقِيَم المُطْلَقَة ، فَسَوْفَ يَرى رَأيَه صوابًا
لا يَحتمل الخطأ ، وهذا سيدفعه إلى الصِّدام مع الآخرين واعتبارهم مُنحرفين ،
والاصطدامِ بالمجتمع ، واعتباره بؤرة فساد .
وهذه
النظرةُ الحادَّة الأُحادية تتعارض _ جُملةً وتفصيلًا _ معَ منهجية الحوار الهادئ
والنِّقاش المُتَّزن ، لأن الإنسان المُتَقَوْقِع عَلى نَفْسِه، والغارق في أفكاره
الشخصية ، والخائف من أفكار الآخرين، يلجأ إلى العُزلة واعتزال الناس ، وصناعة
عَالَمه الخاص القائم على المثالية الوهمية والنقاء المُتَخَيَّل ، والرافض لحياة
الآخرين وأفكارهم وعوالمهم ، خَوْفًا مِنَ التَّلَوُّث والتأثُّر والانحراف. وهذا
هو الأساس الفكري للتطرف قَوْلًا وفِعْلًا. فالعَالَمُ واسع ، وزوايا الرؤية
مُتعدِّدة، وقد يكون للحقيقة أكثر مِن وَجْه ، وقد يكون هناك أكثر مِن طريق يُوصَل
إلى الحق ومعنى الأشياء وحقيقة العلاقات الإنسانية .
وإذا انكمشَ
الإنسانُ على نَفْسِه انهارَتْ إنسانيته ، وسَقَطَتْ شرعيةُ وجوده ، لأن الوجود
الجُزئي لا يتحقَّق إلا بالوجود الكُلِّي، والإنسانُ لا يَستطيع صناعةَ شرعيةٍ
خاصَّة به بعيدًا عن طبيعته النَّفْسية ، ومُحيطه العائلي، وبيئته الاجتماعية،
والعَالَم الذي ينتمي إلَيه . والإنسانُ ليس كِيانًا مُستقلًّا قائمًا بذاته بشكل
كامل، لأنَّه ابن مُجتمعه، ونَتَاج مؤثرات دينية وسياسية وثقافية واقتصادية .
والإنسانُ لا يكون حُرًّا إلا إذا أوجدَ نَفْسَه بِنَفْسه ، وبِما أن هذا الأمر
مُحَال، ولا يُمكن تطبيقه على أرض الواقع ، فهذا يعني عدم وجود حُرِّية مُطْلَقَة
، وعدم وجود حرية بلا مسؤولية ، ولا يستطيع الإنسانُ فِعْلَ ما يَحْلُو له ، لأنه
خاضع لمنظومة الحقوق والواجبات . والحُرِّيةُ المُطْلَقَة هي فَوضى مُطْلَقَة ،
وانهيار شامل على جميع الأصعدة .
ولن يتحرَّر
الإنسانُ من أوهامه ومُسلَّماته الافتراضية إلا إذا بحث عن الحق مُجَرَّدًا مِن
الهوى والمصلحة، وتعلَّقَ بالأفكار ، ولَم يُقَدِّس الأشخاصَ، لأن الفِكرة القائمة
على الدليل، والنابعة من قواعد المنهج العِلْمي، هي فِكرة صحيحة ومُعْتَمَدَة،
لكنَّ صاحبها لَيس مُقَدَّسًا ولا مَعصومًا. والحَقُّ ثابتٌ لا يَسقط، لكنَّ صاحبَ
الحق قد يَسقط. وهذا هو الفرق بين المبادئ وأصحابها . والخلطُ بينهما هو الذي يُسبِّب
البلبلةَ في المجتمع ، ويَزرع الشُّبهاتِ في القلوب ، ويَنشر الشُّكُوكَ في
النُّفوس . وعلى الإنسان أن يأخذ الحِكمة مِن أيِّ وعاءٍ خَرَجَتْ ، فالأشخاصُ
زائلون ، لكنَّ الحِكمة باقية .
والعلاقةُ بين الضغط الحياتي والجوهر الاجتماعي مِثل العلاقة بين المِطرقة والحديد . فالمِطرقة قادرة على تشكيل الحديد ما دامَ ساخنًا ، ولكنه إذا صارَ باردًا فَمِن الصعب أن تُؤَثِّر فيه المِطرقة . والجوهرُ الاجتماعيُّ يجب أن يكون صُلبًا وثابتًا وغير قابل للتَّغيير تحت تأثير الضغط الحياتي ، لأن الجوهر الصُّلْب هو المبادئ والقِيَم ، وهذه ثابتة إلى الأبد ، ولا تتغيَّر باختلاف الزمان والمكان وطبيعة الناس ، لكنَّ المُتغيِّر هو الأفكار والوسائل والآلِيَّات . أمَّا إذا كان الجوهر مائعًا ولَيِّنًا ومُتغيِّرًا بفِعل الضغط الحياتي ، وقابلًا لإعادة التَّشكيل تحت تأثير قَسوة النظام الاستهلاكي المادي، فعندئذ سينهار المجتمعُ، ويَفقد هُويته المُميَّزة ، وكِيانَه الوجودي، وسُلطته الاعتبارية، ويَخسر صَوْتَه الخاص، ويُصبح صدى للمجتمعات الأخرى ، ونُسخة مُقلَّدة مِنها، بعيدًا عن الوجود الأصيل ، وأصالةِ الوجود . ولا يُوجد إنسان قوي بقلب مريض ، ولا توجد شجرة باسقة بجَذر ضعيف .