وُلِد
الشاعر الإنجليزي جون ميلتون ( 1608_ 1674) في إحدى ضواحي لندن ، ونشأ في بيئة يغلب
عليها طابع التدين الممتزج بِقَدْر كبير من الالتزام، وكذلك عُرف عن هذه الأسرة
حبها الشديد للعِلم . ويذكر التاريخ أن جَدَّه عانى الكثير في عصر الملكة إليزابيث
، وذلك بسبب اعتناقه للمذهب الكاثوليكي . ومِن المعروف أيضًا أن أباه كان شغوفًا
بالموسيقى ، فضلاً
عَن كَونه مؤلفًا ومُلَحِّنًا موهوبًا ، وربما كان حب ميلتون للموسيقى نابعًا من
التصاقه الدائم بأبيه، وبذلك امتدت روافد العطاء من الأب للابن . ولاشك أن
الموسيقى تركت بصمات_ لا يمكن تجاهلها _ على آراء ميلتون ، حيث كان يرى أنها وسيلة
مهمة لجعل الشعر أكثر فاعلية وتأثيرًا .
عاشَ ميلتون حياة
مليئة بالمتاعب والمآسي المفجعة ، فقد كانت المصائب تأتي تِباعًا ، الواحدة تِلْو
الأخرى، حيث فقد ابنه الأصغر في سنة 1652، ثُمَّ ما لبث أن فقد زوجته في العام
نَفْسه، وبعد ذلك يستمر مسلسل الأحزان حيث يفقد بَصره في العام نفسه، وبعد أربع
سنوات يتزوج مرة أخرى ، ويفقد زوجته الثانية وطفلتها الرضيعة . وفي سنة 1663 يخوض
ميلتون غمار تجربة جديدة حيث يرتبط بإحدى السيدات ، ويظل يتخبط في هذه الحياة حتى
وفاته .
كان
مُهْتَمًّا بكتابة المقالات والقصائد .
قصيدته الأكثر شهرة "الفِرْدَوْس المفقود " ، التي تُعتبَر مِن أعظم
الأعمال الشِّعرية في اللغة الإنجليزية . تلقى ميلتون تعليمه في كامبردج في الفترة
( 1625_ 1632) . وكان طيله حياته شخصية نشطة في القضايا السياسية والدينية . وخلال الحرب الأهلية
الإنجليزية أصبح في صف أوليفر
كرومويل المعارض
للحُكم الملكي . واستطاع الفرار من عقوبات حتمية بعد رجوع الحكم الملكي في عام
1660 .
بعد
إصابته بالعمى في عام 1652 ، كرَّس نفسه لكتابة قصيدة "الفردوس المفقود"
التي تحكي قصة الشيطان وهبوط آدم وحوَّاء . وبعد
أربع سنوات نشر قصة انتصار المسيح على إغراءات الشيطان في "استرداد الفردوس
" ، والدراما " عذاب شمشون " .
في عام 1638 قام ميلتون برحلة حج مُدعَّمة
بوثائق إلى روما بهدف الاتصال برجال الطبقة المستنيرة ، وتبادل الأفكار معهم ،
وكان قد اجتمع أيضًا مرات عديدة بغاليليو خلال خضوعه للإقامة الجبرية . وكان
لرحلته إلى إيطاليا أبلغ الأثر في نضوجه الأدبي ، فلم يكن مجرَّد زائر جاء كي
يستمتع بجزء من وقته في ربوع هذه البلاد ، ولكنه كان أشبه ما يكون بسفير لثقافته .
وقد كان محظوظًا أكثر من أي مسافر آخر ،
لأنه كانت لديه القدرة على التحدث بطلاقة باللغة اللاتينية ، مِمَّا أتاح له فرصة
ذهبية للاحتكاك بالأدباء والفنانين الإيطاليين، حيث شارك في كثير من المناقشات
الفلسفية والأدبية التي كانت تدور رحاها في ذلك الوقت .
كان ميلتون مُولعًا بالحرية ، وأَوْلاها
اهتمامًا كبيرًا ، وكان يقول إن الكفاح من أجل الحرية يتمثل في لغة التمرد ، وربما
كان في ذلك متأثرًا بالأفكار السائدة في عصره حيث كانت حياة الفرد المسيحي عبارة
عن صراع تقليدي يتم بين ثنايا النفس البشرية التي كانت أشبه ما تكون بميدان
للقتال. وطرفا المعركة هما المسيح والشيطان،وكانا يتصارعان من أجل الفوز بهذه
النفسية البشرية. ويرى ميلتون أن العقل الذي منحه الله
للإنسان تظهر آثاره في قدرة الإنسان على الاختيار، ومن هنا ، فإن الفضيلة تعتمد
على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة .
إن ميلتون يهتم في كتاباته بالتأثيرات
المختلفة للحرية ، والدليل على ذلك هو أن الهيكل الرئيسي في قصيدته " الفردوس
المفقود " يتمثل في الطغيان . وفي هذه القصيدة يرى الشيطان أن كلمة الخضوع
تعني الاحتقار ، وبهذا أصبح سجينًا لهذه الفكرة التي أصبحت الشغل الشاغل له ،
وبذلك أثَّرت كثيرًا في قراراته . فأصبح ينظر لنفسه أنه شخصية مُحْتَقَرَة ، كما
كان المجتمع ينظر إليه على أنه قائد مهزوم . ويعتقد ميلتون أن الفرد الصالح قادر
على أن يقوم باتخاذ قرار منطقي وعقلاني في كل لحظة، وفي أي موقف يتعرض له في حياته
اليومية . ويتَّضح ذلك جَلِيًّا أيضًا في " الفردوس المفقود". ومن
الطبيعي أن تكون معظم شخصياته تعكس نجاحًا منقطع النظير في مقاومة الإغراءات
بنجاح، والقدرة على تبني اختيار بين اتجاهين متناقضين ( الخير والشر ) .
وهذا الموضوع يشغل جزءًا كبيرًا من مساحة
أعماله الأدبية ، ولاشك أن اختياره للشِّعر الْمُرْسَل في " الفردوس المفقود
" يبدو أكثر من مجرد اختيار جمالي ، فهو يرى أن الحرية مثل الجنة ، تَمَّ
فقدها ، ولكن يمكن استعادتها مرة أخرى .
تأثَّرَ
ميلتون إلى حد كبير بالنظرة الدينية للمرأة ، فلم يُقدِّم الحب الجسدي كما فَعل
غَيره، فقد كان بعيدًا كل البعد عن التصوير الجسدي، وهذا ربما يكون متناقضًا مع
ظروف عصره . وَمِن الواضح من كتاباته أنه لَم يستخدم ألفاظًا مثيرة في تجسيد
تأوهات العاشقين المعذَّبين .