المُجتمعُ الحقيقيُّ لا يُؤَسِّس سُلطةً معرفية من أجل
تَغييب العقول ، والتلاعبِ بالمشاعر، واحتكارِ الوَعْي ، وإنَّما يُؤَسِّسها بهدف
تحريرِ التفكير من التقليد الأعمى ، وصناعةِ طبيعة لغوية رمزية قادرة على حمل الأشواق
الروحية والنزعات المادية . وكُل سُلطة معرفية فاعلة في ذاتها ، وفَعَّالة للعناصر
المُحيطة بها ، لا بُد أن تتجذَّر في اللغة دَلالةً منطقية ، ثُمَّ تترسَّخ في
السُّلوك تجربةً عقلانية ، ثُمَّ تتكرَّس في الواقع مُمَارَسَةً اجتماعية . وهذه
الأطوار الثلاثة تُعيد تعريفَ المجتمع اعتمادًا على التوازن بين الدَّور الوظيفي (
التطبيق العَمَلي ) والغاية المنشودة ( الحُلْم الجَمْعي ) . وتأصيلُ السُّلطة
المعرفية في أعماق الواقع المُعاش ، يَكشف الثغراتِ في النظام الشُّعوري للإنسان ،
ويُحدِّد الفجواتِ في علاقة المعرفة بالزمان والمكان . وهذا يُوضِّح أهميةَ
السُّلطة المعرفية باعتبارها ظاهرةً ثقافيةً ونظامًا اجتماعيًّا قادرًا على كشف
العُيوب بُغية تصحيحها . وكُل فِكْر إنساني يَمتلك حركةً تصحيحية ذاتية نابعة مِن
كِيانه ، وغَير مفروضة عليه من العناصر الخارجية ، يُمثِّل فِكْرًا إبداعيًّا
مُتحرِّرًا من الأوهام والضغوطات والمُسلَّمات الافتراضية ، والمنظومةُ الفكرية
الحُرَّة قادرة على تحرير العلاقاتِ الاجتماعية بين البشر ، والعلاقاتِ المادية
بين عناصر البيئة ومُكوِّنات الطبيعة . وحريةُ الكِيان ( البُنية القائمة بذاتها
والمَوجودة في مجالها الحيوي ) شَرْط لتحرير الكَينونة ( الوجود المُشتمل على
الشعور والتفكير والعمل ) . ووَحْدَها الذات الحُرَّة قادرة على تحرير غَيْرها .
2
العلاقةُ بين السُّلطة المعرفية والعلاقات الاجتماعية
تُحدِّد طبيعةَ الظواهر الثقافية ، وتُكوِّن الدَّلالاتِ اللغوية الخاصَّة بسياقات
المجتمع ، وتبني أُسُسَ تأويل السلوك الإنساني ، مِمَّا يَدفع باتجاه تطويرِ الفكر
المعرفي ، وربطِ البُنية العميقة في الفِعل الاجتماعي بالبُنية السطحية ، وهذا
يَمنع الصِّدامَ بين الذات والموضوع ، ويُلغي احتماليةَ ظُهورَ التناقض والتعارض بين
الشُّعور وامتداده في حَيِّز الزمان والمكان ، ويَحفظ جوهرَ المعنى الوجودي من
التَّشَظِّي بسبب ضَغط الأطراف على المركز . والإشكاليةُ الخطيرة التي تُواجِه
مسارَ العلاقات بين الإنسان ومعاني الأشياء هي مُحاولة سيطرة الهامش على المَتْن ،
وهذا يستلزم اختراع صِرَاع بين اللفظ اللغوي والمعنى الاجتماعي ، مِمَّا يُفْقِد
اللغةَ طاقتها الرمزيةَ ، ويُحوِّل العلاقاتِ بين البشر إلى تراكمات فوضوية في
مجتمع الشظايا . لذلك ، يجب إبعاد مفاهيم الصِّراع والصِّدام والفوضى عن الإنسان
والمجتمع ، لأن هذه المفاهيم تمنعَ عمليةَ البناء الاجتماعي على قاعدة إنسانية
صُلبة ، وكُل بناء لا يتأسَّس على قاعدة صُلبة ، سينهار عاجلًا أَمْ آجِلًا .
3
قُوَّةُ التفاعل الاجتماعي تنبع مِن الأفكار المُنضبطة بالوَعْي، التي تَصنع مِن البُنى الشعورية الإنسانية منظومةً أخلاقية عَصِيَّة على التَّمَزُّق والتَّشَظِّي . وصياغةُ مفاهيم أخلاقية مُتماسكة ضِمن الإطار الاجتماعي العقلاني ، تُمثِّل الضَّمانةَ الأكيدة لمنع تحوُّل السُّلطة المعرفية إلى ماهيَّة احتكارية ، تُجرِّد الإنسانَ مِن إنسانيته ، من أجل السيطرة عليه ، والتَّحَكُّم بمساره ، والهَيمنة على مصيره . ولن يتقدَّم المجتمعُ الإنساني إلا إذا تحوَّلت المعرفة الاجتماعية إلى لُغة رمزية تقتل الوَحْشَ داخل الإنسان بُغية إحيائه ، ولا تَقتل الإنسانَ بُغية إحياء النَّزعة الاستهلاكية على أنقاضه .