وُلد الأديب
الإنجليزي، البولندي الأصل جوزيف كونراد ( 1857_ 1924)
في بيرديشيف، التي كانت آنذاك تابعة لبولونيا ( بولندا ) ، لكنها الآن مدينة
أوكرانية .
كان أبوه شاعرًا ومترجمًا،وكان أُمُّه من
عائلة ثرية نبيلة،وقد قرأ كونراد الفتى مع أبيه ترجمات بولونية وفرنسية للروايات
الإنجليزية . تَوَرَّطَ أبوه في نشاطات سياسية ضد السُّلطة القيصرية ، وكان مصيره
النفي مع عائلته إلى فولوغدا في شمال روسيا .وفي أثناء هذه الرحلة أُصيب كونراد
بذات الرئة ، ولَم تلبث والدته أن تُوُفِّيت عام 1865، ثم لحق بها والده في عام
1869 .
تُعتبَر روايته " قلب الظلام " (
1899) مِن أشهر أعماله، وقد عبَّر فيها عن العلاقة بين الطبيعة والإنسان ، كما أنه
كشف عن عواطف الإنسان ومشاعره الخفية. وقد أثارت هذه الرواية خيال مخرجين سينمائيين ونُقَّاد بارزين، مثل فرانسيس فورد
كوبولا الذي بنى على أساسها فيلمه الشهير عن الحرب الفيتنامية " القيامة
الآن"( 1979). إن الرواية تكشف خفايا النفس البشرية ، فبطل الرواية مارلو
يبدأ رحلة طويلة في نهر أفريقي كبير للوصول إلى قلب القارة ، ويُسيطر
على السكان المحليين بوسائل بربرية .
لقد رسمَ كونراد الطبيعة كشبكة من المشاعر
التي تُحيط بنا وتُسيِّر حركاتنا، وهي متمتعة بحياة خاصة بها ، ومن الصعب أن نجد
في داخلنا قوة حقيقية للسيطرة عليها . وكونراد كان يعرف هذه العلاقة بين الإنسان
والطبيعة، فقد عايشَ الأدغال والبحار منذ سن مبكرة. وتَيَتَّمَ بعد ولادته، وعندما
كان في العاشرة من عُمره ، وجد نفْسه على متن سفن تجارية بَحَّارًا بين بَحَّارتها.وَمِن
ثَمَّ أُتِيح له أن يُصبح بَحَّارًا على سفن تجارية إنجليزية. ما مكَّنه في عام
1886 من الحصول على الجنسية البريطانية. وظلَّ يخوض غِمار البِحار حتى عام 1894،
حيث تقاعد مُنصرفًا الى الكتابة، فأنجز حتى رحيله ثلاثين كتابًا ، وصف في معظمها
مغامراته في البلدان والبِحار والقارات ، أو استوحاها بأسلوب غرائبي ، وهذا ساهمَ
في تحقيق رواياته نجاحًا ما بعده نجاح. وكان هدف كونراد الدائم فيها البحث عن
حقيقة الإنسان وعلاقته بالكون ، ولكن في قالب روائي مُشَوِّق دائمًا . استكشفَ في أعماله الضعفَ والاضطراب الأخلاقي الكامنَيْن في
النفس البشرية ، وصَوَّر
الخطر الكامن في مظاهر الطبيعة من بِحَار وعواصف وأدغال ، وكفاح الإنسان في
مواجهتها ،
فضلاً عن اهتمامه بقضايا التفرقة العنصرية والاستعمار .
عاش
كونراد في كنف خاله الذي عُنِيَ بتعليمه، وخلَّف لديه أثرًا باقيًا.كان تلميذًا
مُشاكسًا ومُتمرِّدًا . وتمكَّنَ من إقناع خاله بالسماح له بالعمل في البحر ،
فسافر إلى فرنسا، حيث أمضى بضع سنوات أتقن خلالها اللغة الفرنسية وعَمَلَ
البَحَّارة، والتحق بالبحرية التجارية الفرنسية بَحَّارًا مُتَدَرِّبًا ، فقام
بثلاث رحلات إلى جزر الهند الغربية ، كما كوَّن في أثناء إقامته في فرنسا علاقات
شتى ، وتعرف من خلال أصدقائه البوهيميين على الدراما والأوبرا والمسرح،
وتعمَّقت صِلاته بالعُمَّال الذين التقاهم على متن السفن ، فكوَّنت تجاربه معهم
خلفية ذلك الوصف الحي الذي اشْتُهِرت به رواياته .
كانت الكتابة بالنسبة إليه مُحمَّلة بالألم
والمصاعب، ولَم يكتب إلا بالإنجليزية لُغته الثالثة ، التي تعلَّمها على كِبَر بعد
البولونية والفرنسية . وقد عانى من الفقر والمرض والشعور بالعزلة .
مِن أعمال كونراد الأولى روايته "
حماقة ألماير " التي أمضى خمس سنوات
في العمل عليها قبل أن تُنشَر عام 1895، وهي تُصَوِّر ألمانِيًّا مُشَرَّدًا
يتخبَّط في الأنهار والغابات . ويبدأ فيها كونراد استخدام أسلوب التكرار في
مؤلفاته، حيث يكون الراوي غالبًا رئيس بَحَّارة متقاعد، ورأى بعض النقـاد أنه
يُمثِّل الأنا البديل لكونراد ، ويُسبغ على أعماله صفة السيرة الذاتية .
أمَّا
" زنجي السفينة نرجس " ( 1897) ، فهي قصة معقدة عن عاصفة تهبُّ عند رأس الرجاء الصالح ،
وعن بَحَّار أسود يَلُفُّه الإبهام والغموض . أمَّا روايته الشهيرة " لورد
جيم " ( 1900)، فيكتشف فيها مفهوم الشرف الشخصي من خلال أفعال وعواطف رَجل
يقضي حياته في محاولة
للتكفير عن فعل جبان ، كان قد اقترفه وهو ضابط شاب عند تَحَطُّم إحدى السفن .