وُلد الروائي الفرنسي
جوستاف فلوبير ( 1821_ 1880) في مدينة روان الفرنسية ، لأب يعمل
طبيبًا. التحقَ بالمدرسة مُتأخِّرًا ، حيث تجاوز عمره العاشرة ، وكان ذلك سببًا في
نزعة الخجل التي لازمته . دأبت خادمة الأسرة على إشباع خياله بالكثير من القصص
والحكايات ، فلمَّا التحق بالمدرسة بدا ميله واضحًا إلى دراسة التاريخ، وشغف بقصصه
.
كان فلوبير يكتب دون عِلم أبيه الطبيب الذي
كان يريد أن يجعل ابنه جَرَّاحًا بارعًا مِثله، لكن فلوبير صارح والده بعد حصوله
على شهادة الثانوية بعدم رغبته في دراسة الطب، فاقترح الأب عليه أن يكون محاميًا ،
وقرَّر إرساله إلى باريس ليدرس القانون .
لَم يلبث فلوبير أن ضاق بالقانون والجامعة
وباريس ، وصمَّم على أن يحترف الأدب، وانكب على قراءة كتاب " دون كيخوطي
" لثيربانتس . وقد صار هذا الكتاب المنبع الأول لفلسفته .
بعد وفاة والده في عام 1845 وأخته الوحيدة
كارولين التي كان يُحبها حُبًّا جَمًّا ، انتقل إلى الضَّيعة التي اشتراها والده
على ضفة نهر السين تدعى " كرواسيه " ، وظل هناك حتى نهاية حياته.
ألزمَ نفسه بنظام
وعادات صارمة ، حيث كان يستيقظ في العاشرة صباحًا ، ويبدأ بمطالعة الصحف والرسائل
الواردة إليه ، ثم يتناول غداءً خفيفًا في الحادية عشرة ، ويقضي الساعتين
التاليتين مُتكاسلاً في الشرفة أو جالسًا في جناحه يقرأ ، وفي الساعة الواحدة ينكب
على الكتابة حتى الساعة السابعة مساءً ، ثم يتناول عشاءه ، ويقوم بجولة في
الحديقة، ثم يعود بعدها ليستأنف الكتابة حتى ساعة متأخرة من الليل .
كانت تنتاب فلوبير
نوبات صرع غامض لازمه طوال حياته مِمَّا جعله يعزف عن الزواج ، ولكنه أحب أكثر من
مرة ، وكانت أولى حبيباته فتاة إنجليزية تدعى " هنرييت كولييه". وكان
أبوها مُلْحَقًا بحريًّا لبلاده في فرنسا . ثُمَّ أحب السيدة " إليزا شلي
سنجر " التي كانت تكبره بتسع سنوات ، وكان يصحبها مع زوجها وطفلها في
النُّزهات والرحلات، إضافة للشاعرة السيدة "لويز كوليه" التي حظيت
بمكانة مرموقة في الأوساط الأدبية لجمالها وليس لموهبتها الأدبية ، وكانت حينها في
الثامنة والثلاثين من العمر وهو في الخامسة والعشرين ، وقد تركته حينما اعتذر عن
الزواج منها . وأخيرًا ، حبيبته " جولييت دروييه " التي أحبها طوال
حياته ، والتي رسم ملامحها على شخصية " إيما " بطلة روايته الشهيرة
" مدام بوفاري " ( 1856) .
ينتمي فلوبير إلى المدرسة الواقعية في الأدب
، وعادةً ما يتم النظر إلى روايته " مدام
بوفاري" بأنها أول رواية واقعية . وعلى خلاف الكُتَّاب الرومانسيين الذين
يعتمدون على الخيال والعواطف المتَّقدة في التعبير الأدبي، تميَّز فلوبير بقدرته
على الملاحظة الدقيقة، والاستعانة بالعقل والرؤية الموضوعية . ففي رواية "
مدام بوفاري " يُصوِّر فلوبير التطورات الطارئة على
بطلة الرواية ( إيما بوفاري) من الناحيتين السيكولوجية والأخلاقية ، ويُصوِّر
طبائع وأمزجة عدد من الشخصيات الأخرى ، وكلها نماذج عادية تحيا في الواقع
الاجتماعي وتنتمي إلى الطبقة الوسطى ، ولها اهتماماتها وأهدافها ومشاريعها العادية
.
إن فلوبير روائي وفنان واقعي بامتياز ، وهو
قادر على رصد الطبائع البشرية ومعرفتها معرفة عميقة على خلاف الرؤية الفلسفية التي
تؤدي بالفيلسوف عادة إلى معرفة الإنسان ودوافعه وحوافزه . وفلوبير لَم يكن
فيلسوفًا ، بل روائِيًّا وفنانًا واقعِيًّا .
ومِمَّا تتَّصف به رواية (مدام بوفاري)
ميلها إلى التعالي الذاتي على الطريقة الرومانتيكية ، والتطلع إلى المستقبل والنفور من الحاضر الذي يتَّصف بالافتقار
الى الفاعلية ، فنجد أن زواج" إيما" من الطبيب " شارل بوفاري
" أدى إلى زيادة إحساسها بالفراغ ، ورغبتها في الانعتاق من القيد الاجتماعي
الذي يُكبِّلها ، ويمنع روحها من التعالي والارتقاء .
والواقع أن
"شارل بوفاري " على درجة كبيرة من المحدودية على كل المستويات
الفكرية والشعورية . وفي آخر الرواية ، تصل " إيما بوفاري" إلى نهايتها
التراجيدية ، فَتُقرِّر بناء العلاقة الغرامية التي تتوق إليها روحها المتعطشة
للحب، وهو ما يؤدي بزوجها " شارل
بوفاري" إلى الموت حَزَنًا وكمدًا على زوجته الراحلة ، هذا معَ عِلمه
بخياناتها المتكررة. وقد امتازت هذه الرواية بواقعيتها ، ورَوعة أسلوبها ، وأثارت
قضية الأدب المكشوف.
يُعتبَر فلوبير مثلاً أعلى للكاتب الموضوعي،
الذي يكتب بأسلوب دقيق ، ويختار اللفظ المناسب والعبارة الملائمة .