وُلِد الفيلسوف الإنجليزي جيرمي
بِنثام ( 1748 _ 1832 ) في لندن . عُرِف مُنذ صِغره بذكاء خارق ، فقد تمكَّنَ مِن
تعلُّم اليونانية واللاتينية، ولَم يتخطَّ بعد عامه الرابع ، ولُقِّب بـِ "
الفيلسوف " مُذ كان في الخامسة مِن عُمره .
حصل على شهادة الماجستير من جامعة
أكسفورد عام 1766 ، ليكون أصغر مُتخرِّج عَرَفته الجامعات الإنجليزية في ذلك الوقت
. وكان من المفترض أن ينصرف إلى مهنة المحاماة، إلا أنه اهتمَّ بالكيمياء أكثر،
وشرع في إرساء مذهب فلسفي عُرِف باسم " النفعية "، وهو ما تجلى في كتاباته
انطلاقًا مِن "شذرة حول الْحُكم" ( 1776 )، الذي أكَّدَ فيه أن الْحُكم
لا تُبرِّره إلا منفعته.
وكان لمواقفه فيه تأثير كبير في
الإصلاحات التي شهدها التشريع الإنجليزي آنذاك . وبالإضافة إلى هذا ، فقد سعى إلى
إدخال تعديلات وإصلاحات على قوانين العقوبات والقانون الدستوري ، وعمل على إقامة
التشريع على أسس عِلمية. وتجلى ذلك في كُتبه اللاحقة، وفي مقالاته التي نشرها خاصة
في مجلة وستمنستر التي كان له دور فعَّال في إنشائها ( 1823_ 1824 ) ، ودعا من
خلالها إلى الإصلاح الدستوري ، وإصلاح حالة السجون في إنجلترا .
ومِن روسيا ،
أرسلَ بنثام عام 1787 إلى إنجلترا مبحثه " دفاع عن الرِّبا " ، وعارض
الإدانة اللاهوتية للربا ( الفائدة ). ففي مجال الاقتصاد ومجال السياسة يجب أن
يُترَك الفرد حُرًّا في تنفيذ ما يَراه وَفْقَ أحكامه على أن يكون هذا في صالح
المجتمع .
كان لترجمة كتاباته إلى الفرنسية
صدى كبير في فرنسا ، وخاصة كتابه " مقدمة في مبادئ الأخلاق والتشريع "
(1789) ، أي بعد صدوره بالإنجليزية بثلاثة أعوام ، إذ منحته الجمعية الوطنية
الفرنسية عام 1792 ، لقب " مواطن فرنسي " تكريمًا له . وفي هذا الكتاب ،
عرض بنثام نظريته الأخلاقية في المنفعة ، وقوامها مبدأ السعادة القصوى ، أو
القَدْر الأكبر من السعادة ، وهو مطلب فردي وجماعي في آن ، فالكُل يبحث عن أكبر
قَدْر مِن السعادة . وانطلاقًا من تحليله للعلاقة بين ثنائية اللذة والألم من جهة
، والعقل والمنطق من جهة أخرى، وبين المنفعة الفردية والمنفعة الجماعية، انتهى
بنثام إلى تأكيد شمول المنفعة الجماعية للمنافع الفردية، وإثبات قيام السعادة
الإنسانية القصوى على المراعاة العامة للقانون وقواعده المعتبرة لمبدأ المنفعة .
فَمِثل هذا القانون كفيل بتحقيق الانسجام والتناغم بين صالح الفرد والصالح العام .
لقد كان كتابًا صعبًا مُدَعَّمًا
بصرامة بمئات التعريفات لدرجة تترك القارئ غير المختص مُشَوَّشًا، لكن بنثام كان
يأخذ على عاتقه عملاً عقليًّا مُجْهِدًا ، فقد كان يهدف إلى إحلال الأخلاق
الطبيعية محل اللاهوت، وإقامة السلوك والقانون على أسس قوامها صالح المجموع أو
الوطن أكثر من إقامتها على أسس قوامها إرادة السُّلطة التنفيذية أو مصالح طبقة من
الطبقات، وتحرير القانون والسُّلوك من فروض الدِّين من ناحية ، ومن الأحلام
الثورية من ناحية أخرى . وهذه الأسس الجديدة _ لكلٍّ مِن الأخلاق والقانون _ قامت
على مبدأ النفعية : فائدة الفِعل للفرد، وفائدة العادة للجماعة ، وفائدة القانون
للشعب ، وفائدة الاتفاقات الدولية للجِنس البشري.
ذهب بنثام إلى أن كُل النُّظم
تسعى لتحقيق السعادة وإبعاد الألم . وعرَّف السعادة بأنها ترضية، وعرَّف الألم
بأنه إزعاج سَواء للبدن أو النفس . والنفعية هي ميزة تحقيق السعادة أو اجتناب
الألم ، والسعادة هي استمرار السُّرور . والنفعية لا تحتاج لِقَصْرها على الفرد ،
فقد تكون _ جُزئيًّا أو أساسًا _ للأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الجِنس البشري .
وقد يجد الفرد ( من خلال غرائزه الاجتماعية ) السعادة أو تجنُّب الألم، في ربط ما يُرضيه
بما يُرضي الجماعة التي ينتمي إليها. وبالتالي، إن الهدف النهائي والمِحَك
الأخلاقي لكل الأعمال والقوانين ، هو مدى إسهامها في تحقيق أكبر قَدْر من السعادة
لأكبر عدد .
لَم يَدَّعِ بنثام أنه أصل هذه
الصيغة النفعية . لقد أعلن بصراحته المعتادة أنه وجد أساسها في كتاب جوزيف بريستلي
" مقال عن المبادئ الأساسية للحُكم " ( 1768 ) .
في إنجلترا ، أدان المحافظون مبدأ
النفعية ، باعتباره مبدأ غير وطني وغير مسيحي ، وأنه مبدأ مادي . ودافعَ بعض
الكُتَّاب ذاكرين أن أفعالاً كثيرة _ مِثل الحب الرومانسي والأبوي والتضحية بالنفس
وتبادل المساعدة _ لا تنطوي على حسابات واعية بإرضاء الذات ( أو إشباع رغبات الذات
) ، واعترى الفنانون الإحباط للحُكم على أعمالهم الفنية بمقياس المنفعة . لكن
الجميع فيما عَدا الموظفين الحكوميين ، وافقوا على أن النفع الذاتي هو خُلق كل
الحكومات وسياساتها إذا نَحَّيْنا جانِبَي الادِّعاء والخداع .