وُلد الفيلسوف الروسي نيقولاي
بيرديائيف ( 1874 _ 1948 ) بمدينة كييف ، لعائلة أرستقراطية.
أمضى طفولته في عزلة ، حيث تمكن من الاطلاع على كمية هائلة من الكتب، حصل عليها من
مكتبة أبيه، وحين بلغ الرابعة عشرة ، بدأ قراءة أعمال كبار الفلاسفة الألمان أمثال
: هيغل ، وشوبنهاور ، وكانت . وقد برع في اللغات منذ صغره .
التحق بجامعة كييف لدراسة القانون والعلوم
الطبيعية عام 1894 ،
وكانت هذه فترة الحمى الثورية بين الطبقة المعروفة باسم ( الإنتلجنسيا ) ، وهي
طبقة لا تعني بالضروة رجال الفكر، بل تعني كل الناشطين السياسيين، سواءٌ كانوا من
أهل الفكر والثقافة أَم لَم يكونوا .
في عام 1898 ، قُبِضَ عليه في
مظاهرة طلابية ، وفُصل من الجامعة. ورغم أنه درس بجامعات أخرى إلا أنه لَم ينل
الدرجة الجامعية ، فقد تورَّطَ في أنشطة غير شرعية، ونُفِيَ إلى فولونطا بشمال
روسيا. وفي أثناء المنفى كتب كتابه الأول ، الذي تحوَّل فيه من الفكر الاشتراكي
الماركسي إلى الفردية الوجودية .
وفي عام 1904 ، تزوج بيرديائيف ،
وانتقل إلى سان بطرسبرج العاصمة
الروسية حينها ، ومركز النشاط الفكري والثوري . حيث دخل في العديد من المناقشات
الفكرية والروحية، وتخلى أخيرًا عن الراديكالية الماركسية لِيُركِّز اهتمامه على
الفلسفة والدين .
ورغم أن بيرديائيف كان مسيحيًّا
مؤمنًا إلا أنه كان ناقدًا للكنيسة كمؤسسة ، وقد تسبَّب مقاله الناري في نقد
مُقدَّسات الكنيسة الأرثوذكسية
الروسية في اتهامه
بالكفر ، الذي كانت عقوبته النفي إلى سيبيريا مدى الحياة،
إلا أن قيام الحرب
العالمية الأولى والثورة البُلشفية،
حالا دون النظر في قضيته . اعتنقَ بيرديائيف بعض جوانب الاشتراكية، إلا أنه لَم
يقبل النظام البُلشفي الشيوعي بسبب تسلُّط النظام، وسيطرة الدولة على حرية
الأفراد. ومعَ هذا ، سُمح له بإلقاء المحاضرات والكتابة . ولكن في عام 1922طَردت
الحكومة البُلشفية مئة من المثقفين البارزين،كان بيرديائيف من بينهم.
في البداية توجَّهَ وغَيره من
المهاجرين إلى ألمانيا إلا أن الظروف الاقتصادية والسياسية في ألمانيا، دفعت
الكثير منهم _ بما فيهم بيرديائيف وزوجته_ إلى السفر إلى باريس عام 1924 . حيث
أنشأ أكاديمية هناك ، لتعزيز تبادل الأفكار مع المجتمع الثقافى الفرنسي .
استمر بيرديائيف في الكتابة أثناء
الاحتلال الألماني لفرنسا. والعديد من كتبه نُشِر بعد الحرب، والبعض الآخر نُشر
بعد وفاته. كتب بيرديائيف في الأعوام التي قضاها في فرنسا خمسة عشر كتابًا، كان من
ضمنهم أهم أعماله . وتُوُفِّيَ على مكتبه في ضاحية كلامار قرب باريس .
يُعتبَر بيرديائيف من المفكرين الحدسيين .
فلسفته تُعبِّر عن حياته، وعواطفه، وتجاربه الفكرية والعلمية ، وثمرة اطلاع واسع
على المذاهب الفكرية في مختلف العصور والحضارات ، ومراقبة للأحداث الكبرى التي
حدثت في حياته . وقد ألقى الضوء على مشكلة الإنسان في العصر الحاضر وموقفه بين
مختلف التيارات الفكرية والسياسية والاقتصادية .
يجعل بيرديائيف الشخصية الحرة
الخلاقة محور مذهبه، وليست الشخصية عنده وسيلة ، وإن الغاية هي النمو الحر الكامل
للشخصيات، وعنده أن الوجود
الحق هو وجود
الشخصية الحرة .
وفلسفته مُشتقة من تصوُّره للروح
الإنسانية . وفي نظر بيرديائيف أن عيوب الفلسفة
المادية هي أنها
تُضعِف في الإنسان الشعور برسالته. كما يرى
أن الماركسية تسلب التاريخ رُوحَه ، لِتُغلِّفها بفكرة أن الواقع التاريخي الجوهري
هو الحركة المادية الاقتصادية،وكما أن الإنسان له روح وجسد فكذلك التاريخ له
ثنائيته في نظر بيرديائيف، ومعنى التاريخ يتجلى في الصراع بين الروح والطبيعة.
ويرفض بيرديائيف الرأي القائل إن
السعادة والكمال لا يتحققان إلا في العصور المتأخرة، وأن الأجيال السابقة تتحمل
الشقاء من أجل الأجيال اللاحقة، فهو يرى أن كل فرد خلال التاريخ عنده إمكانيات
بلوغ الأبدية في كل لحظة من لحظات حياته ، ومِن ثَمَّ فإن معنى التاريخ يمكن
الوصول إليه في كل لحظة .
يُعتبَر بيرديائيف أحد أهم رواد
الفلسفة الوجودية المسيحية . وحاولَ التوفيق بين ماركس
وكانت . لكنه ابتداءً من سنة 1901 ، وتحت تأثير نيتشه خصوصًا، تخلى
عن الماركسية،
وشاركَ في حركة التجديد
الروسي،وهي
حركة دينية النَّزعة، كما أسهم في حركة إصلاح وتجديد الكنيسة الروسية . انتُخِب
نائبًا في مجلس الجمهورية الذي لَم يعش طويلاً .
وفي عام 1920 صار أستاذًا في
جامعة موسكو ، حيث ألقى
محاضرات نشر بعضها في سنة 1923 في برلين تحت عنوان " معنى التاريخ".
وبعضها الآخر تحت عنوان " رُوح دوستويفسكي".