وُلد
الفيلسوف ومُؤرِّخ الأديان الروماني مِرسيا إلياد (1907 _ 1986) في بوخارست . تلقى
تعليمه في جامعتها حتى حصل على الماجستير عام 1928 . واستطاع أن يحصل من أحد
المهراجات على منحة لدراسة اللغة السنسكريتية والفلسفة الهندية ( 1928 _ 1931 ) في
جامعة كلكتا . انتقل بعدها ليعيش لمدة ستة شهور في صومعة أحد النُّسَّاك في قمة
جبال الهيمالايا ، حتى يمر بالتجربة الدينية الصوفية العميقة التي يعيشها رجال
الدين من المتصوِّفة والزُّهاد هناك ، ويجمع بذلك بين الدراسة النظرية والحياة
العملية التي تقوم على الممارسة الفعلية.
وحين عاد إلى رومانيا ، حصل في عام 1933 على
الدكتوراة برسالة عن " اليوجا ، مقال في أصل أسرار التصوف الهندي " .
وقد عُيِّنَ بعد ذلك في الجامعة لتدريس تاريخ الأديان والفلسفة الهندية . وحين
قامت الحرب العالمية الثانية عمل ملحقًا ثقافيًّا لبلاده في لندن ثم في لشبونة ،
فلمَّا انتهت الحرب انتقل كي يعيش في باريس ، وعمل أستاذًا زائرًا في مدرسة
الدراسات العليا بالسوربون ، إلى أن انتقل إلى جامعة شيكاغو عام 1957 ، ليشغل
وظيفة أستاذ لتاريخ الأديان.
ومنذ ذلك الحين حتى وفاته كرَّس كل وقته
وجهده للدراسة والكتابة والتأليف والمشاركة في تأسيس المجلات والدوريات المتخصصة
في تاريخ الأديان وفلسفة الدين. وغطى إنتاجه الغزير كثيرًا من مجالات البحث التي
كان يعالجها كُلها من موقف محدَّد يقوم أساسًا على تجربته الدينية الذاتية . له
مؤلفات في أدب الخيال وأدب الرحلات والسير
الذاتية، وتاريخ الأديان وفلسفة الأديان . كما كان مترجمًا رائدًا في التجربة
الدينية ، حيث أسَّس نماذج في الدراسات الدينية استمرت حتى يومنا هذا . ومِن أهم
إسهاماته تأثيرًا في مجال الدراسات الدينية نظريته " العَودة " .
كان إلياد في وقت مبكر من حياته، صحفيًّا
وكاتب مقالات ، وتلميذًا للفيلسوف الروماني المتطرف والصحفي ناي أونيسكو ، وعضوًا
في معاهد المجتمع الأدبي . وخلال أواخر الثلاثينيات، أعرب إلياد علنًا عن دعمه
للحرس الحديدي ، وهي منظمة سياسية فاشية ولا سامية . وكثيرًا ما انتُقِدت مشاركته
السياسية في ذلك الوقت، فضلاً عن اتصالاته اليمينية الأخرى بعد الحرب العالمية
الثانية . يتمتَّع إلياد بقدرة هائلة على تعلم اللغات ، حيث كان يتقن خمس لغات (
الرومانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية)، بالإضافة إلى معرفة
القراءة بثلاث لغات أخرى (العبرية والفارسية والسنسكريتية ) .
كان لإلياد منهج خاص في قراءة الدين
والظواهر الدينية ، وكان نهجه جديدًا . فقد اعتقد أن الرمزية الدينية أفضل تجليات
الإبداع الإنساني في تجاوبه مع هيبة الوجود وعظمته التي لا يُدرَك قرارها . كما
يذهب إلى أن الأساطير القديمة لها حُكم الصور الأزلية أو الأعيان الثابتة ، لذلك
لا تزال ذات نفوذ كبير في عقل الإنسان المعاصر .
ويؤمن إلياد بأن البحث في تاريخ الأديان
والغوص في هذا التراث الإنساني الضخم يُولِّد في نفس الباحث محبةً للنوع الإنساني
أوسع وأعمق مِمَّا تدعو إليه إنسانوية الغرب غير الدينية .
كتب إلياد في مقدمته لموسوعة الدين : ((
تاريخ الأديان يكشف لنا عن مسيرة وسيرة الإنسان في تعاطيه مع المقدَّس ، أي تلك
الظاهرة الشاملة التي تتجلى بصور مختلفة )) .
ويمكن توصيف منهج إلياد بأنه تلفيق ذو وجوه
متعددة ، وخليط من الأنثروبولوجيا وظواهرية هوسِّرل والبنيوية ، والتأويل أو
الهرمنيوطيقا .
والثابت الأساسي في أعمال إلياد هو اعتباره
المقدَّس _ وهو الجوهر المشترك لكل تجليات الحياة والثقافة الدينية_ أمرًا أصيلاً
وبسيطًا وواحدًا، لا يقبل الاختزال إلى معارف وتجارب أخرى.
قام إلياد في سيرته الذاتية " الرحيل إلى الشرق ، الرحيل إلى الغرب " بتلخيص موقفه من الحياة والمجتمع، ووضَّح نظرته إلى الوجود ، وبيَّن فلسفته في الحياة ، فهو يقول في الجزء الأول من سيرته : (( لقد كان مُقَدَّرًا لي أن أحيا حياة تقوم على المفارقات والمتناقضات ، التناقض مع نفسي ومع العصر الذي عِشْتُ فيه . وكانت هذه المفارقة هي التي اضطرتني إلى أن أعيش في وقت واحد داخل التاريخ ، وفيما وراء الأحداث ذاتها، وأن أشغل نفسي بمشكلات وموضوعات تبدو في ظاهرها قديمة وبالية وتخطاها الزمن، في الوقت الذي أحرص فيه على التمسك بأسلوب الحياة السائد في رومانيا (بلده الأصلي)، حتى حين كنت أعيش في عوالم وبلاد غريبة وعجيبة ونائية )) .