يُعْتَبَر المالُ من أهم أعمدة البناء الاجتماعي . وهذه مسألة طبيعية ،
فهو المُحرِّك لعجلة الحياة بكل تفاصيلها ، وبدونه يُصبِح الإنسانُ تائهًا ،
وتُصبح الحياة جحيمًا لا يُطاق . والأهم من هذا ، أن حُب المال غريزة مغروسة في
الذات الإنسانية .
ولا يخفَى أن كلَّ المجتمعات
البشرية تتكون من الأغنياء والفقراء . فالناسُ يتفاوتون في عقولهم وقدراتهم
وأرزاقهم . وفي ظل هذه المتغيِّرات ، يظل هناك قاعدةٌ ثابتة وأساسية ، وهي أن
المالَ نِعمةٌ جليلة لا يمكن للحياة أن تستقيم بدونه ، ولكنْ إذا تم استخدامه في
سُبل الضلال فسيصبح نقمةً على أصحابه . فالواجبُ أن يظل المالُ في اليد لا القلب ،
وأن يظل وسيلةً لا غاية . وهو _ أوَّلًا وأخيرًا _ عَرَضٌ زائل يَأتي ويَذهب .
وقد تكرَّست في بعض المُعلَّقات
لمحاتٌ فلسفية متعلقة بالمال ، فَبَرَزَت الحسرةُ مِن ضِيق ذات اليد ، وظَهَرَ
تمنِّي الغِنى ، والأملُ بِعَيْشٍ رغيد .
ولا يمكن تجاهلُ فِكرة التقلب
بين الفقر والغِنى ، فالحياةُ لا تكفُّ عن الدوران ، وأحوالُ المعيشة لا تستقر على
حال .
ومن القضايا الأساسية في هذا
السِّياق ، قضيةُ جمع المال للوَرَثة ، وهي قضيةٌ مُضحِكة مُبكِية تشير إلى سُخرية
الحياة ، وأنها متاع زائل . فالإنسانُ يَحْرص على جمع المال بكل وسيلة للاستمتاع
به ، وهو _ في حقيقة الواقع _ إنما يَجْمع المالَ لورثته الذين سَيَدْفنونه سريعًا
عندما يَموت ، ويَعودون إلى اقتسام التَّركة والتقاتل على حِصص الميراث .
والتعامل بالمال
يَكْشف عن معادن الرجال، والمالُ فِتنةٌ شديدة، وليس أمام الإنسان إلا الصمود أو
السقوط ، فلا خيارٌ ثالث ، ولا يوجد حَلٌّ وسط . وللأسف ، فإن السَّواد الأعظم من الناس يَسْقطون في هذه
الفِتنة .
1_ تمنِّي الغِنى :
كلُّ عاقل يتمنى أن يُصبح غنيًّا . فالمالُ
سُلطة تُكسِب صاحبها الاحترام، وتجعله يُحقِّق أحلامَه . أمَّا الفقرُ فهو ذُل في
النهار والليل معًا ، ويَكفي المال شرفًا أنه يَحفظ ماءَ وجه صاحبه ، ويمنعه من
سؤال الناس . وهذا إنجازٌ بحد ذاته .
يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد :
فلوْ
شاءَ رَبِّي كنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ ولوْ شاءَ ربِّي كُنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ
فأصبحــتُ
ذا مالٍ كثيرٍ وَزَارَني بَنُونَ
كِرامٌ ســادَةٌ لِمُسَــوَّدِ
لا يمكن فهمُ البَيْت
الثاني بشكل صحيح إلا إذا عَرَفْنا البَيْت
الذي يَسْبقه ، لذلك ذَكَرْنا البَيْتَيْن معًا .
تتفجرُ الحسرةُ في قلب الشاعر ، وتتكاثرُ
الخَيْبات في عُمره . والبيتُ الثاني ليس إخبارًا بحقيقة واقعية ، وإنما هو مجرَّد
أُمنية ، أو حُلم يُسعَى إلى تحقيقه .
يقولُ : فأصبحتُ صاحبَ مالٍ كثير ، وزارني
أبناء مَوْصوفون بالكرم والمجد والسِّيادة . إنهم أبناء سادة لِرَجل مُسَوَّد (
والشاعر يَقْصد نَفْسه ) . والمعنى : أن والدَهم سَيِّدٌ ، وقد أَوْرثهم
السِّيادةَ والشرفَ والرِّفعةَ . وهكذا يَكون قَد جمع المالَ والبنونَ ( جَمع
المجدَ من طَرَفَيْه ) .
والشاعرُ يتَّخذ من قيس بن خالد وعمرو بن
مرثد مَثَلًا أعلى . وهذان رَجلان من سادات العرب ، مشهوران بكثرة الأموال ونجابةِ
الأولاد . والشاعرُ يَقْصد بهذا البيت أن يقول: لو بَلَّغني اللَّهُ مكانتهما،
لصرتُ ذا مالٍ وفير ، كريمَ العَقِب ( الولد ) .
2_
التقلُّب بين الفقر والغِنى :
الدنيا
دَوَّارةٌ ، وأحوالُ الناسِ متغيِّرة. وهُم متقلِّبون بين الفقر والغِنى . وعُمومًا
، الدَّهرُ يَوْمان : يَوْمٌ لَكَ ، ويَوْمٌ عَلَيْكَ . والإنسانُ متأرجحٌ بين
الفوز والخسارة .
يقولُ
الشاعرُ الأعشى الأكبر :
إمَّا
تَرَيْنا حُفاةً لا نِعالَ لنـا إنَّا كذلكَ ما نَحْفَى ونَنْتَعِلُ
يقولُ إِنَّا على هذه الحالة ، نحفَى تارةً
، وننتعل تارةً أُخرى . تمرُّ أيامٌ يَكُونون فيها حُفاةً لا نِعال لهم ، وتجيء
أيامٌ يَلْبسون فيها النِّعال .
يَحْتكمُ الشاعرُ إلى المنطق الواقعي ، ويَذكر
حقيقةً اجتماعيةً معروفة ، وهي أن الإنسان يتأرجح بين الفقر والغِنى . فتارةً
يَكون فقيرًا محتاجًا يعاني مِن ضِيق ذات اليد ، وشَظَفِ العَيْش ، ويَغْرق في
الهموم ، ويخافُ من الغد . وتارةً يَكون غنيًّا ، يَحْيا في بُحبوحة من العَيْش ،
ويَستقبل أيامه بكل ثقة وأمل . وهذه هي حَال الدنيا .
3_ جمع المال للوَرَثة
:
يَخوضُ الإنسانُ حروبًا شرسة للحصول على
المال ، ويُضحِّي بوقْته وصِحَّته وراحةِ أعصابه من أجل كسب المال واستثماره
وتخزينه . وفي نهاية المطاف يَحْصل الوَرَثةُ على المال بكل أريحية ودون أي تعب .
يقولُ الشاعرُ عُبَيد بن الأبرَص :
وكلُّ
ذي إبِلٍ مَـوْروثٌ وكُلُّ ذي
سَلَبٍ مَسْلوبُ
هذه الفلسفةُ العميقةُ هي تلخيص للوجود
الإنساني. فكلُّ صاحب إبل سيتركها لوَرَثته، وكلُّ مالٍ سَيَتْركه صاحبُه _ رغمَ
أنفه _ ، ويَرْحل عن الحياة ، ويأتي الوَرَثةُ من أجل اقتسامه بكل هدوء أعصاب.
وهكذا، فالإنسانَ يَقْضي حياته خازنًا لأموال الآخرين ، وحارسًا لها .