وُلد الفيلسوف الفرنسي
ميشيل فوكو ( 1926 _ 1984 ) في مدينة بواتييه بفرنسا ، لأسرة تنتمي إلى طبقة
النبلاء في المجتمع الفرنسي . كان والده طبيبًا جرَّاحًا ، وكان يأمل
أن يكبر ابنه ليشاركه مهنته ويرثها بعده . يُعتبَر فوكو أحد أهم المفكرين الغربيين في النصف الثاني
من القرن العشرين ، كما يُوصَف بالفيلسوف الأكثر تأثيرًا في فلاسفة ما بعد الحداثة
.
تأثرَ بالبنيويين ، ودَرَسَ وحلَّل تاريخ الجنون ،
وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون . وابتكر
مصطلح " أركيولوجية المعرفة " أي : حفريات المعرفة. وأرَّخَ للجنس أيضًا
مِن " حُب الغِلمان عند اليونان" وصولاً إلى معالجاته الجدلية المعاصرة. حصل على شهادة التبريز في الفلسفة عام 1951 ، وعلى
الدكتوراة في الفلسفة عام 1961. انتمى إلى الحزب الشيوعي الفرنسي(1950_1953) عن
طريق لوي ألتوسير ، لكن ما لبث أن تركه بعد
أن أثارت قلقه تصرفات ستالين في الاتحاد
السوفييتي .
تولى في الفترة ( 1950_ 1960) مناصب عِدَّة
في الخارج ، فكان مديرًا لدار فرنسا في أوبسالا بالسويد ، فملحقًا ثقافيًّا
بفرسوفيا، ثم أمضى عامين بهامبورغ .
عُيِّن أستاذًا للفلسفة في جامعة كليمون
فيرون بعد عودته إلى فرنسا ، ومناقشته رسالته للدكتوراة حول موضوع " تاريخ
الجنون في العصر الكلاسيكي " .
شغل منصب أستاذ بجامعة تونس ( 1965 _ 1968 ) ، ثُمَّ أصبح
أستاذًا في الكوليج دو فرانس ( 1970 ) مُخْتَصًّا في تاريخ الأنساق الفكرية .
بدأت شُهرته عام 1969 بعد إصداره كتاب
" حفريات المعرفة " . واتَّسم مساره الفكري بإظهاره الالتزام باعتباره
" مثقفًا من أهل التخصص " ، وليس باعتباره " مثقفًا شموليًّا
" على طريقة سلفه جون بول سارتر.وبهذه الصفة ناضل فوكو إلى جانب اليسار
الراديكالي"القضية البروليتارية"، وأسَّس " فريق الإخبار بحال
السجون " الذي استقصى سريًّا أحوال المعتقَلين ، لأجل إدانة الوضع الذي كانوا
يوجدون عليه . سافرَ كثيرًا خلال سبعينيات القرن العشرين ، وحاضر في الولايات المتحدة الأميركية واليابان، وتحمَّس بالخصوص للثورة
الإيرانية . يكمن جانب تجديده الفكري في أنه مُنذ الفيلسوف فرانسيس بيكون _ الذي يُوصَف بأنه أول من اعتبر المعرفة سُلطة
_ لَم يُعالج أحد من مفكري الغرب مسألة " المعرفة والسُّلطة " بنفس
العُمق الذي عالجها به فوكو .
تمحورت اجتهاداته حول خمسة أسئلة أساسية :
ماذا يمكن للإنسان أن يقوله حول ذاته حين يُفكِّر فيها لا مِن منظور العقل وإنما
من منظور اللاعقل ؟ ( كتاب تاريخ الجنون، 1961)، وكيف ينظر إلى ذاته حينما يدركها
انطلاقًا من ظاهرة المرض ؟ (كتاب ميلاد العيادة ، 1963 ) . وكيف يبني ذاته من جهة
كَوْنه كائنًا حيًّا ناطقًا شَغَّالاً ؟ (كتاب الكلمات والأشياء، 1966) ، وكيف
تبدو للإنسان محاكمته لذاته من حيث خضوعه للمراقبة وللعقاب ؟ (كتاب المراقبة
والعقاب ، 1975) ، وأخيرًا : كيف ينظر الإنسان إلى رغباته ويهتم بذاته ؟ (ثلاثية
تاريخ الحياة الجنسية، 1976_ 1984 ) .
إن فوكو لَم ينظر إلى الإنسان الغربي من جهة
تعقله وعافيته وحريته ، وإنما نظر إليه من جانب ما يُضاد ذاتيته ويقلق راحتها ، أي
: الجنون والمرض والعقاب .
لقد دعا فوكو الحضارة الغربية إلى التفكير
في ذاتها انطلاقًا مِمَّا تُهمِّشه ، فكان أن وجد في ظاهرة الجنون _ التي هي جُزء
لا يتجزأ من تاريخ هذه الحضارة حتى وإن هي أنكرته أو قمعته _ موضعًا مشتركًا
لأشكال الإقصاء ، كما تحرَّى في ذلك تفكيك التقليد الكلاسيكي الذي دأب على جعل
العقل لا يُحاور إلا نفْسه حول الجنون .
تعقَّبَ فوكو العقل الغربي بَدْءًا من نشأته
( عصر النهضة ) إلى القرن التاسع عشر ( عصر الحداثة) مرورًا بالعصر الكلاسيكي،
باحثًا عن أُسس المعرفة ، وعن النظام المعرفي الخفي الذي تشكلت بحسَبه العلوم
وأشكال القول العقلي . فأكَّد أن عصر النهضة طغى عليه التفكير بحسَب مبدأ التماثل
، وأن العصر الكلاسيكي استبدَّ به منهج التحليل ، أمَّا العصر الحديث فقد هَيْمَنَ
عليه البُعد التاريخي .
في كاليفورنيا ،في منطقة بحيرة سان
فرانسيسكو الشهيرة، قضى فوكو ليالٍ عديدة في نشاطات جِنسية مِثلية ، وفي بيوت خاصة
بالرغبات السادية والمازوخية ، وكان يُمجِّد ويَمتدح مثل هذه النشاطات ، ووصفها بِـ"
الخلق الحقيقي لإمكانية الرغبة،والتي لَم يكن يحيط الناس بها في الماضي".
يُعتقَد أن فوكو في تلك المرحلة التقط عَدوى
الإيدز . وذلك قبل أن يتم التعرف على المرض ووصفه ، حيث كانت أول حالة إيدز في
العالَم عام 1980 . وقد تُوُفِّيَ فوكو يوم 25 يونيو / حُزَيران 1984 في
مستشفى بباريس ، مُصابًا بمرض نقص المناعة المكتسبة ( الإيدز ) .