وُلد الأديب البلجيكي
موريس ماترلينك ( 1862_ 1949) في مدينة غينت البلجيكية ، لعائلة ثرية ناطقة
بالفرنسية . تلقى تعليمه في كلية يسوعية مُتشدِّدة جعلته يَحتقر الكاثوليكية ، وكل
الديانات الأخرى . كتب قصائد وروايات
قصيرة أثناء دراسته ، ولكن والده كان يُحاول جاهدًا إبعاده عن الأدب ، وتوجيهه نحو
دراسة القانون . وقد خضع لرغبة والده ، وحصل على شهادة في القانون من جامعة غينت
عام 1885. ثم سافر
مباشرةً إلى باريس، حيث قضى فيها عِدَّة أشهر، وتقابل مع أدباء من الحركة الرمزية،
وحدث تأثير متبادل، وتبادل للخبرات والأفكار والأحلام . وقد ذاع صِيته في عام 1890
، عندما كتب مقالاً عن رواية للكاتب أوكتاف ميربو في جريدة لوفيغارو الفرنسية ذات
الشُّهرة الواسعة .
حصل
ماترلينك على جائزة نوبل للآداب عام 1911، بفضل أعماله الأدبية التي تُرَكِّز على
قضية الموت ومعنى الحياة ، والمكتوبة بلغة جدَّدت في التيار الرمزي، كما جدَّدت في
اللغة الفرنسية ذاتها . وهذا يتجلى في مسرحياته مثل : الأعمى ، والأخت بياتريس ،
والطائر الأزرق . بالإضافة إلى مجموعات
شعرية ودراسات ونصوص أدبية مُتنوعة ، جعلته أشهر أدباء بلجيكا في عصره .
تميَّزت أعماله الأدبية بالأبعاد الدرامية ،
وقوة الخيال ، والنَّزعة الشِّعرية ، والإلهام العميق، وحضور الأساطير والخرافات ،
وتحفيز مُخيِّلة القُرَّاء وإثارة مشاعرهم عن طريق توظيف الرمزية الغامضة . ومن
الأمور الطريفة أن ماترلينك كان يريد أن يصبح جنديًّا في الجيش ، لكنَّ الحكومة
رَدَّته قائلةً : إن قلمك أقوى من كتيبة من الجنود المسلَّحين .
كان
أول عمل له مجموعة شعرية بعنوان " مُتحمِّس المخالب" ( 1889 ). ثم انتقل
من الشِّعر إلى الكتابة المسرحية ، فأصدر في العام نفسه مسرحيته " الأميرة
مالين " التي لَقِيَت إشادةً خاصةً من أوكتاف ميربو ( الناقد الأدبي في جريدة
لوفيغارو ) عام 1890 . ثم تتابعت مسرحياته التي تحمل فكرًا صوفيًّا مثل : الدَّخيل
( 1890 ) ، الأعمى ( 1892) . وقد أتاحت له المسرحيات فرصة التعرف إلى الممثلين
والممثلات، والتعامل معهم عن قُرب ، فأقام علاقة مع الممثلة جورجيت لبلان ، وأثناء
هذه العلاقة كتب العديد من الأعمال ، مِن بينها : كنز المتواضع ( 1896 ) ، والذي يُعتبَر العمل الأكثر شعبية .
يُعَدُّ ماترلينك مثالاً واضحًا على الغربة المعنوية والاغتراب المكاني . فقد اختار الكتابة بالفرنسية والانتماء
إليها،وهذا جعله مرفوضًا مِن قِبَل شريحة عريضة من أبناء شعبه .
لقد عانى ماترلينك من غربة روحية عنيفة ، وكان لها انعكاسات على الزمان والمكان .
والإنسانُ هو ابن بيئته، وإذا حاول الخروج من هذه البيئة ( الحاضنة ) أو التمرد
عليها ، فلا بُدَّ أن يَدفع ضريبة هذا التمرد . فلا يوجد تمرُّد مجاني . وما مِن
موقف يمر دون ثمن .
كان
ماترلينك ينتمي إلى الأوساط الفلامندية، ثم اختار الانتماء إلى اللغة الفرنسية
لفظًا ومعنًى، وهذا يعني أنه اختار الهوية الفرنسية بكل دلالاتها القومية، مِمَّا
جعل الكثيرين من أبناء جِلْدته يَنظرون إليه كخائن ومُنْشَق . كما أن الحكومة
البلجيكية اعتبرت كتاباته تافهة ، لا تُؤهِّله للحصول على أي منصب حكومي ، فما كان
من ماترلينك إلا أن أعلن تمرده على بلجيكيته ، واحتقاره لها . وهذه رَدَّة فِعل
مُتوقَّعة ، لأنه لَم يَحْظَ بالتقدير والاحترام مِن قِبَل حكومة بلاده .
ثم جاءت
الغربة المكانية ، فأدار ظَهْرَه لوطنه بلجيكا ، وانتقل إلى العيش في فرنسا ،
باعتبارها وطنه الجديد . كما أن التربية الدينية المتطرِّفة التي تَلَقَّاها في
صِباه ، جعلته رافضًا للكاثوليكية والأديان الأخرى. وهذا التَّشدد الديني ظهر في
مسرحياته التي كانت تحمل نزعةً مسيحية متطرفة ، رافضة لقيم التسامح ، ولا تعترف
بالآخَر ، سواءٌ كان مسيحيًّا أم غير مسيحي .
وهذا
التَّشدد الديني يُمكن فهمه في إطار الفِعل ورد الفِعل . إذ إن ماترلينك عاش
منبوذًا ومرفوضًا مِن قِبَل حكومة بلاده وأبناء شعبه ، وبما أنه مرفوض مِن قِبَل
الآخرين ، فهذا جعله رافضًا للآخرين . وقد بَقِيَت الحكومة البلجيكية تتجاهله ،
حتى فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1911 ، مِمَّا أجبرَ الحكومة على الاعتراف به ،
وتكريمه ، والاحتفال بإنجازه العالمي ، باعتباره أول كاتب بلجيكي يفوز بجائزة نوبل
للآداب .