وُلد الفيلسوف الروسي
ميخائيل باختين ( 1895_ 1975 ) في مدينة أريول . درس فقه اللغة، وتخرَّجَ عام
1918. وعمل في سلك التعليم، وأسَّس " حلقة باختين" النقدية عام 1921.
اعْتُقِل عام 1929 بسبب ارتباطه بالمسيحية
الأرثوذكسية ، ونُفِيَ إلى سيبيريا مُدَّة ست سنوات . بدأ عام 1936 التدريس في
كلية المعلمين في سارانسك. ثُمَّ أُصيب بالتهاب أدَّى إلى بتر ساقه اليسرى عام
1938. عاد باختين بعدها إلى مدينة ليننغراد ( بطرسبرغ ) ، وعمل هناك في معهد تاريخ
الفن ، الذي كان أحد معاقل الشكلانيين الروس، ثم عاد إلى سارانسك حيث عمل أستاذًا
في جامعتها . استقرَّ مُنذ عام 1969 في كليموفسك ( إحدى ضواحي موسكو ) بعد أن
تدهورت صحته وراح يكتب في مجلاتها وخاصة " قضايا الأدب " ، و" السياق
" .
بدأ باختين الكتابة والنشر بعد تخرُّجه في
الجامعة مباشرة ، فصدرت مقالته الأولى " الفن والمسؤولية " ( 1919 )،
ثُمَّ أصدر كتابه الشهير " مشكلات في شِعرية دوستويفسكي " في مدينة
ليننغراد ( بطرسبرغ ) عام 1929 .
نشر باختين بعض مقالاته وثلاثة من كتبه
بأسماء مستعارة.وناقشَ عام 1940 في المعهد الأدبي التابع لأكاديمية العلوم
السوفييتية في موسكو رسالته للدكتوراة ، وكانت بعنوان " إبداع فرانسوا رابليه
والثقافة الهزلية الشعبية في العصور الوسطى وعصر النهضة " . وقد صدرت هذه
الرسالة في كتاب بعد خمس وعشرين سنة من كتابتها ، في عام 1965 .
وهناك أعمال لباختين لَم ترَ النور إلا بعد
وفاته، لذا لَم يبدأ العالَم بالتعرف عليه ، إلا بعد خمسين عامًا من التعتيم
حوله،ولَم يحظ بالشهرة إلا في نهاية حياته بعد إعادة نشر كتابه " مشكلات في
شعرية دوستويفسكي " عام 1973 ، وترجمة كتابه عن رابليه إلى الإنجليزية عام
1986 .
تقوم نظرية باختين في الأدب والفلسفة على
أربعة أركان : البحث النظري الفلسفي ، ونظرية الحديث ، ونظرية الأدب ، ونظرية
الرواية . ويَظهر البحثُ الفلسفي في ثنايا نظرية باختين. فقد كتب في نظرية الأدب،
واللغة، والسيميائية، والنقد، وعلم النص . وساهمَ في تحديد التصورات النظرية عن
اللغة والشعرية والسيميائية في علاقاتها المتشابكة مع المجتمع والتاريخ ، وتكوَّنت
نظريته الشمولية من الفلسفة والعلوم الإنسانية وعِلم ما وراء اللغة .
تتلخص نظرية باختين عن النص في تحديد هويته
ومنهج البحث فيه ( التأويل ) ، وفهمه الذي يعتمد على الاستجابة . ويرى أن النص _
سواءٌ كان مكتوبًا أم شفهيًّا _ هو أساس جميع حقول دراسته ( اللسانيات ، وفقه
اللغة، والدراسات الأدبية ، والعلوم الإنسانية عامة ). فهو الواقع المباشر، حيث
يستطيع الفكر في هذه الحقول جميعًا أن يكون نفْسه حصرًا ، فحيث لا يوجد نص ، لا
يوجد موضوع للاستعلام والمساءلة ، ولا يوجد فكر .
أما الإبستمولوجيا ( نظرية المعرفة ) عند
باختين فتقوم على نظريته في اللغة ، التي تبدأ من الحديث البشري بوصفه نتاجًا
لتفاعل اللغة والسياق المرتبط بالتاريخ . وليس الحديث عنده فرديًّا، وليس متغيرًا
بلا حدود،بل هو موضوع لاستعلام علم لغة جديد في اللغة سَمَّاه عِلم ما وراء اللغة.
ويرى أن هذا العلم هو الذي يُمكِّن من
التغلب على ثنائية الشكل والمضمون العقيمة ، ويُساعد في التحليل الشكلي
للأيديولوجيات . ويرى باختين أن أهم سمات الحديث هي حواريته ، أي بُعده التناصي .
ولهذا فإن كل خطاب يُقيم حوارات مع الخطابات التي كانت ، والتي ستأتي .
وقد اعتمد باختين هذا مُنْطَلَقًا في رسم
انطباعه عن تأويل جديد للثقافة ، فهي تتشكل من الخطابات التي تحتفظ بها الذاكرة
الجمعية،وهي تلك الخطابات التي ينبغي لكل فرد متكلم(مُتحدِّث، مُرْسِل ) أن
يُحدِّد موقع خطابه بالقياس إليها .
ويبقى دوستويفسكي الشخصية المفضَّلة عند
باختين، فهو يرى أنه واحد من أعظم المجدِّدين في ميدان الشكل الفني، لأنه أوجدَ
نمطًا جديدًا تمامًا من التفكير الفني هو " رواية متعددة الأصوات "،
ويرى أن أعمال دوستويفسكي الإبداعية توزَّعت في سلسلة من البُنى المستقلة بعضها عن
بعض والمتعارضة فيما بينها، يستميت أبطالها في الدفاع عنها .
ويُؤكِّد باختين أن جميع عناصر البُنية
الروائية عند دوستويفسكي تُحدِّدها مهمة بناء عالَم متعدد الأصوات، إلى جانب تحطيم
الأشكال القائمة للرواية الأوروبية المونولوجية المتجانسة في الأصل. وترتكز تعددية
الأصوات على استنباط أساليب النوع الأدبي، بطريقة تُوضِّح تزامنيًّا بُنى هذا
النوع الأدبي . وتقوم تعددية الأصوات على دراسة المركَّبات الزمانية المكانية
المميِّزة لكثير من الأنواع السردية الثانوية ، وينشأ عن هذا كُله نزوع نحو
التنافر والاختلاف .