ما زالت العقلية
السياسية العربية محصورة في بدائية ردود الأفعال الارتجالية دون وجود منظومة تخطيط
متكاملة . وهذا يعود إلى عدم وجود دولة عربية على الأرض الواقع . فهذه الكيانات
السياسية المنتشرة من الخليج إلى المحيط عبارة عن قبائل تتقمص قناعَ الدولة المدنية
المتحضرة .
وفي ظل هذه
التداعيات السياسية السلبية يتكرس الحاكم العربي كشيخ قبيلة معصوم محاط بالحاشية
المنافقة الموالية له ، مما أدى إلى فراغ موحش في المناصب الحكومية ، وغياب
الكفاءات القادرة على خدمة الأمة ، لأن التعيين يتم اعتمادًا على الولاء الأعمى
وليس الكفاءة والإخلاص ، فأضحت الدولة العربية الكرتونية مزرعة للحاكم وأتباعه
العائشين في الأبراج العاجية ، والمعزولين عن الشعب اللاهث وراء كسرة الخبز .
فانتقل الفكر السياسي البدائي من النظام الحاكم إلى الفوضى الحاكمة إلى العصابة
الحاكمة ، ومن دولة القانون والمؤسسات إلى حكم القبيلة ، ومن البرلمان المشتمل على
المعارضة إلى الحظيرة التي لا تَقبل إلا بالموالين للعصبية القَبَلِيَّة دون تمييز
بين الحق والباطل . وبالتالي فالدولة تُدار كإقطاعية للحاكم الذي يتصرف في موارد
الدولة على أنها مِلْك شخصي ، فتصبح مسألة إطعام الشعب أو تجويعه حقًّا طبيعيًّا
لرأس الهرم السياسي _ من وجهة نظره _ .
والسُّلطة السياسية
تريد مجتمعًا من الأغنام يُقَاد معصوب العينين إلى الذبح دون أن يعترض . وفي هذا
السياق الاجتماعي المتزامِن مع انهيار مركَّبات الوعي الحتمي ، اعتاد المواطن العاطل
عن الوطن على فوضوية المؤسسات الرسمية الغارقة في الفساد والنفاق والروتين
الوظيفي، فدخل الفردُ في التدجين الرسمي الشامل ، فأمسى كائنًا فارغًا مُجَوَّفًا
لا تاريخ له سوى الخضوع والاستسلام ، يحلم بمستقبل مجهول شديد المخاطر ، لأن سياسة
الأنظمة الحاكمة محصورة في اللحظة الآنية ، أي تثبيت حُكم الزعيم حتى الرمق الأخير
، وليكن الطوفان بعد ذلك . وهذه مسألة بالغة الخطورة لأنها تشتمل على ترحيل مشكلات
الشعب المصيرية لا حلها ، ودفنِ النار تحت الرماد لا إطفائها .
لذلك ظهر المواطن
العربي بلا حول ولا قوة . كأنه كائن مُعَدَّل وراثيًّا ، فصار انتحاره البطيء هو
النواة المركزية والغلاف الفلسفي لحياته ، فهو لا يتخيل حياته بدون موت بطيء .
وهكذا حصل النظام الحاكم على مراده بأن صنع كائنًا خائفًا من الحرية والشورى ، مِمَّا
جعل الفرد عدو نَفْسه ، وضد الآخرين . وهذا هو هدف الديمقراطية الوهمية التي ترسم
السياسة العامة للبلاد حول مركزية رأس العشيرة الحاكم المُطْلَق .
والإشكالية الصادمة في
الفوضى السياسية العربية أن الدولة الشكلية تم نقلها إلى القبيلة . فلم تعد
القبيلة وحدة اجتماعية فحسب ، بل صارت نظامًا سياسيًّا له دستوره الخاص المفروض
على كل أنساق المجتمع . وهذا التسييس القاتل للمكونات الاجتماعية أدى إلى تغييب
عناصر الولاء والانتماء للدولة الأم الحاضنة لجميع أطياف الشعب .
والمواطن
العربي يشعر بغربة شرسة في بلاده، لأنه يعتقد أن وجوده كعدمه، وأنه موضوع في الهامش،
وسواءٌ حضر أَمْ غاب فلن يعبأ به أحد . فصوته مُصَادَر في مسرحيات تزوير
الانتخابات، وحياته الاجتماعية محصورة في عوالم رغيف الخبز ، وحقوقه السياسية
مهدورة لأنه تربى على عدم الكلام في السياسة خوفًا من المشاكل الأمنية في ظل الدول
العربية البوليسية .
وصار الشباب العربي طوابير طويلة أمام السفارات
الأجنبية هُروبًا من مجتمعاتهم الفاسدة من الرأس حتى القاعدة . والبعض يحاول
الهجرة غير الشرعية عن طريق البحر فيصبحون طعامًا للأسماك . وهذا يعكس حجم
التحولات الكارثية في البلاد العربية . فمثلًا ، أثناء الحربين العالميتين كان
الأوروبيون يهربون من جحيم بلادهم لكي يأتوا إلى مدينة كالإسكندرية لكي ينعموا
بالثقافة والرفاهية والأمان . أما الآن فصار الشباب العربي يضع الهجرة على رأس
أولوياته ، فهو ينظر إلى بلاده كسفينة تغرق ويريد أن يقفز منها ، أو كشقة مفروشة سُرعان
ما يغادرها دون شعور بالانتماء الحقيقي ، لأن السياسات الرسمية الفاشلة تقوم
بالقتل المنهجي لروح الانتماء والمواطنة.ولا يمكن إقناع الفرد بحب الوطن وهو لا
يجد رغيف الخبز. وبالتالي فقد تكرس الخلاص الفردي ، وكل مواطن يريد أن ينجوَ بنفسه
.
إن الأنظمة
المخابراتية في الوطن العربي أسَّست مُجتمعات مُنهارة على جميع الأصعدة . والمجتمعات
التي تعاني من القمع السياسي والكبت الجنسي هي نتاج الأنظمة البوليسية التي تنتهج
سياسة " جَوِّع كلبَكَ يتبعك "، فهي لا تحترم آدمية المواطنين، بل
تعتبرهم مجرد كلاب حراسة لحماية قصور الحُكَّام ، وحماية الحاشية العائشة كالذباب
على نزيف الشعوب اللانهائي .
لذلك تكرست
فوضى المصطلحات . فصار ما يسمى بالوطن عبارة عن شعارات جوفاء ، وأغنيات في الأعياد
، واختراع إنجازات في الهواء . فمصطلح " الوطن " تم أدلجته لترسيخ حكم
الطغاة، وشرعنة الفساد المتجذر، وإضفاء غطاء شرعي على عمليات استغلال الشعوب وسحقها
لصالح الطبقات المتنفذة في ظل غياب العدالة الاجتماعية ، مِمَّا أدى إلى صناعة
مجتمعات الكراهية والعنف وانعدام الثقة بين الحُكَّام والمحكومين . وهذه المجتمعات
المُفرغة من المعنى ، والمُصابة بالشطط الطبقي ، تصنع عوالم اللاانتماء، حيث يصير
الأمين خائنًا ، والخائن أمينًا ، ويصبح ما يسمى بالدولة إسطبلًا لِعِلْية القوم
الذين يذبحون الوطن باسم الوطن ، ويتاجرون بشعارات الوحدة الوطنية ، ودولةِ
القانون والمؤسسات ، والتنمية الشاملة .