إنَّ النظام الإنساني في الشِّعْر يعتمد على
خروج الشاعر مِن نَفْسه ، ثُمَّ النظر إليها عن بُعد، ورصد الثغرات وردمها ، ثُمَّ
العودة للاندماج بالذاتِ الشاعرة . والتأثير المعنوي والمادي للقصيدة يعتمد على سَيل أفكار
غَير مُتوقَّع . ومن هنا تنبع قوة القصيدة ، فالقدرة على مُباغتة المتلقي هي التي
تستفز قواه الذهنية وتُزلزله عاطفيًّا ، مِمَّا يؤدي إلى حالة ذهنية مُتَّقدة ، ومواجهة
صاخبة بين النص والمتلقي، أي بين أشعة الكلام ومرايا صاحب أدوات الاكتشاف. والقصيدة
وهجٌ قادم من عروق التاريخ البشري ، وتنقيبٌ متواصل عن الربيع داخل الخريف.
والقصيدةُ معركةٌ لا بد من خَوْضها من أجل وضع النقاط على الحروف ، ورسمِ حدودِ
الوجود تمهيدًا لإزالة الحدود بين الإنسان ونَفْسِه ، وبين الإنسان ومجتمعه ، وبين
اللغة والشاعر .
ومن الضروري الانتباه إلى أن القصيدة
كالسَّابح ، كلاهما إذا ارتبكَ غرقَ. وبما أننا في عالَم القصيدة ، فلا بد أن نتحدث
عن " موت القصيدة " ، وهذه العملية مرحلة مُؤقَّتة مثل استراحة المُحارِبِ
. وهذا "
المَوت " أشبه بالهدوء الذي يَسْبق العاصفة . وفي ضوء هذه المعطيات ، ينبغي
اعتبار مَوت القصيدة صِفةً مَجَازية . فالقصيدةُ تُولَد مِن مَوتها ، وتتكرَّس في
ولادة الشاعر الرائي لكي تحيا حاملةً معها خلودَ صانعها . وهذا الانبعاثُ المتجدد
يَجعل القصيدة _ في حقيقة الأمر _ لا تَموت .
والشاعرُ الحقيقي يَرمي القارئَ في فُوَّهة
البركان اللغوي مباشرةً بلا مقدِّمات، ويُلغِي القواسمَ المشتركة بين قصائده.
وكلما تعذَّب الشاعرُ ارتفعَ مستوى إنتاجه، وبالتالي استمتع القراء أكثر ! . وهذا
الموتُ اللذيذ يُعتبَر تتويجًا لفلسفة الاستمتاع بالعذاب . والشاعرُ ليس وحيدًا في
مملكته (القصيدة ) لأن عناصر الطبيعة تشترك معه في صياغة النَّص الشعري ، كما أن
الجماهير تساهم في كتابة النَّص بقَدْر ما يُساهم صاحبه. وهذا التلاحمُ التلقائي
يمنع تحوُّل الشِّعر إلى شظايا مُعدَّلة وراثيًّا.والشاعرُ لا يموت ولا يمكن
قَتْلُه لأنَّه فكرة يَحْملها الناسُ ، هذا هو الوضع الطبيعي . أمَّا الوضعُ الخاص
، فإن الشاعرَ يموت حين يَفقد القدرةَ على الإدهاش .
لماذا يَكتب الشعراءُ قصائدهم ؟! . هذا سؤال
يُشبه إلى حد بعيد أسئلة من قبيل : لماذا نأكل ؟ لماذا نشرب ؟ لماذا نتنفس ؟. فالقصيدةُ
نسقٌ فكري وغريزة حيوية في آنٍ معًا . والظاهرةُ الشِّعرية مبنية على الشعور
المتبادل بين عناصر الطبيعة وقلب الشاعر. الحلمُ يتكرر ، لكنَّ القلبَ واحدٌ .
وهذا القلب بكل شظاياه يُصوِّر لنا حياةً جديدةً نحياها في الخيال ، ويحياها
الخيالُ فِينا واقعًا ملموسًا .