وُلد الأديب الروسي ميخائيل شولوخوف ( 1905_ 1984) لأب
مزارع وأم أوكرانية . أمضى معظم حياته في قريته فيوشينسكايا ، التابعة لإقليم
روستوف في جنوب روسيا . وصارت قريته هي الفضاء الفكري والأدبي لكافة أعماله .
تأثَّرَ ببيئته وقَومه ، وهُم مجموعات من المقاتلين جاء بها القيصر كي تَحرس
الحدود الجنوبية للإمبراطورية الروسية ، فأسَّست أخلاقياتها ، وكرَّست أدبَها
الشعبي وعاداتها وتقاليدها .
لم يُكمِل شولوخوف دراسته الابتدائية، وعاش الفترة(
1918_1924) في إقليم روستوف ، حيث كانت المنطقة تحت سيطرة الجيش الأبيض الذي أراد
الإطاحة بثورة البلاشفة .
في عام 1924 ، سافر إلى موسكو لِيُجرِّب مختلف الأعمال ،
ويُمارس حَظَّه في الكتابة والنشر والتعرف على الوسط الأدبي . وبعد عامين، عاد إلى
موطنه الأصلي، ولم يُفارقه حتى وفاته. وفي عام 1932 ، انضم إلى الحزب الشيوعي
السوفييتي. وفي عام 1934، أصبح عضوًا في اتحاد الكُتَّاب .
بدأ شولوخوف الكتابة وعمره 17 سنة.وأوّل كتاب نشره هو
"حكايات الدون" ( 1926). وهو مجموعة قصص قصيرة عن أحداث الحرب الأهلية
في روسيا ومآسي شعبه، حيث انتشر القتل، وتَمَّ تشريد ملايين البشر ، ودُمِّرَت
العلاقات والروابط الاجتماعية للشعب الروسي ، وانهارت تقاليده القَومية.وظهرت
القَسوة والعنف الهائل بين الأطراف المتقاتلة في الحرب الأهلية. وقد أجمع النقاد الأدبيون على أن هذه القصص تدلان على
الموهبة المتألِّقة للمؤلف الشاب .
وفي عام 1926 ، انهمك في تأليف الجزء الأول من روايته الملحمية " الدون الهادئ "، وأكمل الجزأين الأول والثاني لروايته عام 1927 ، وتم نشرهما في مجلة " أكتوبر " بموسكو. وقد راجت في تلك الفترة افتراءات تزعم أنه ليس مؤلف الرواية ، وإنما استحوذ على مخطوطة كاتب مغمور . لكنَّ شولوخوف لَم يهتم بهذه الافتراءات،وعكف على تأليف الجزء الثالث للرواية،ونشر مقتطفات منه في المجلات الأدبية ، ووصف في أحد فصوله انتفاضة سُكان منطقته ضِد حملة سلبهم حقوقهم ، مِمَّا أدى إلى وقف نشر الكتاب . لكنَّ ستالين الذي قرأ فصول الرواية في مجلة أدبية ، أرادَ أن يلتقيَ الكاتبَ الشاب، وقام الكاتب مكسيم غوركي بإعداد اللقاء الذي جرى عام 1931 في منزله بموسكو. وقد أيَّد ستالين شولوخوف في طموحاته الأدبية،مِمَّا مَكَّنه من استئناف نشر الرواية بعد حذف المقاطع حول الحملات الإجرامية الموجَّهة ضِدَّ سكان منطقته وأبناء قَوميته. تتكلم رواية " الدون الهادئ " المكوَّنة من أربعة أجزاء ( صدر الجزء الأول عام 1928 ) عن التطورات العاصفة التي حصلت في روسيا خلال الحرب العالمية الأولى ، وسقوط القيصرية وقيام الثورة البُلشفية ، وتنتقل الأحداث من مكان لمكان ، وكيف كان يعيش المواطنون بجوار نهر الدون الهادئ القريب من نهر الفولغا الذي يقسم الأراضي الروسية إلى شطرَيْن . ثُمَّ تبرز أحوال القائد المتغيِّرة بسبب قُربه أحيانًا من حبيبته التي كانت متزوجة من أحد أفراد سَرِيَّته ، التي كان يُشرف عليها ويَقودها . وتواصل الرواية سرد معاناة الشعب الروسي من الحصار للقُرى ، وقتل الشيوخ والأطفال على يد الجيش الغازي ، واستمرار صمود الجيش الأحمر السوفييتي.وقد صدر الجزء الرابع من الرواية عام 1940 ، وتضمَّن تمرُّد بطل الرواية على النظام ، وعدم قبوله بالحكم البُلشفي ، فتعرَّض شولوخوف لهجمات كثيرة من النُّقاد . لكن ستالين لَم يسمح باعتقاله . وقد لاقت الرواية رواجًا هائلاً في السينما ، فتمَّ تحويلها إلى فيلم سينمائي أكثر مِن مَرَّة . تتجلى أهمية شولوخوف في قدرته العالية على تصوير الشُّخوص ، والغَوص في تفاصيل الأحداث ، كما أن التوقيت الذي ظهر فيه زاد من أهميته ككاتب . كما أنه رَفض الخضوع لإملاءات السُّلطة السياسية، ودافعَ عن حُرِّية الإبداع، وأنقذَ الكثيرين من ضحايا القمع الستاليني. وقد انتقدَ ستالين شخصيًّا، مِمَّا أثار الدهشة من جُرأته وشجاعته،خصوصًا أن ستالين تركه يَفعل ما يَحلو له.وهذه التصرفات كانت تُؤدِّي في الاتحاد السوفييتي إلى حبل المِشنقة بتهمة الخيانة العُظمى. عمل شولوخوف خلال الحرب ضد ألمانيا النازية ( 1941_ 1945) مراسلاً عسكريًّا ، مِمَّا ساعده في كتابة فصول روايته " إنهم قاتلوا في سبيل الوطن " التي لَم تكتمل. ومن أبرز أعماله الأدبية: روايته القصيرة" مصير إنسان " التي تُعتبَر تُحفة أدبية صغيرة الحجم، هائلة العُمق والألم والمأساوية . إنها تروي قصة إنسان بسيط أضاعت الحرب كل ما اعتزَّ بِه في حياته : الأسرة والمنزل والأقارب والأصدقاء ، لكنها لَم تتمكن من تركيعه وإهانته . فاز شولوخوف بجائزة نوبل للآداب( 1965) ، وكان مجموع ما طُبع من أعماله في الاتحاد السوفييتي وفي عشرات اللغات، قُرابة 80 مليون نسخة . اعْتُبِرت كتاباته النموذج الأمثل للواقعية الاشتراكية ، وهو تيار من تيارات الواقعية، ظهر رسميًّا في الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن العشرين ، وانتشر فيه ، وفي الدول الواقعة تحت تأثيره ، وكان التيار الموصَى بِه بشكل إلزامي ، وكان له ارتباط بالأيديولوجية والدعاية والترويج ، ويُركِّز بشكل أساسي على دور الفقراء والطبقة الكادحة في الحياة والآداب والفنون .