وُلِد الفيلسوف
الألماني كارل ماركس ( 1818 _ 1883 ) في مدينة ترير التابعة يومئذ لمملكة بروسيا ،
الواقعة شرق ألمانيا حاليًّا ، وهو
الابن الثاني في أسرة ميسورة الحال تنتمي إلى الطبقة الوسطى ، وتتكون مِن تسعة
أبناء .
ينحدر والده مِن
عائلة يهودية ضمَّت العديد من الحاخامات وتُجَّار مزارع الكروم . اضْطُرَّ الأب
إلى اعتناق البروتستانتية عام 1816 ، مِن أجل التمكن من ممارسة مهنة المحاماة بعد
صدور قوانين تمنع توظيف اليهود في الوظائف العمومية في ألمانيا، وحوَّل اسمه
من"هرشل" إلى "هاينريش ". أمَّا الأم فتنحدر من عائلة يهودية
هولندية ، وقد بقيت على يهوديتها حتى وفاة والدها الحاخام ، ثُمَّ
اعتنقت المذهب اللوثري عام 1825 . تلقى ماركس تعليمه الثانوي بمدينة ترير ، وانتقل
إلى بون عام 1835
لدراسة القانون ، ثُمَّ إلى برلين في مارس 1836
لدراسة التاريخ والفلسفة بجامعة فريدريش فِلهِلم، وشرع في إنجاز أطروحته للدكتوراة
عام 1839 حول الفلسفة الإبيقورية، وعمل على دراسة جوانب الاختلاف بين الفيلسوفين
ديموقريطس وإبيقور. وقد تخرج بدرجة الدكتوراة عام 1841 من كلية الفلسفة بجامعة
يينا، وهي من أعرق الجامعات الألمانية .
تأثَّرَ ماركس في بداية حياته الجامعية
بالفلسفة الهيغلية (نِسبة إلى الفيلسوف الألماني هيغل )، حيث كان يتردد على حلقات
الهيغليين الشباب في برلين، لكنه ما لبث أن تأثر أثناء إعداده لرسالة الدكتوراة
بالفلسفات المادية، وكانت النَّزعة الإلحادية ونقد الدين يطبعان نقاشاته الفلسفية
مع صديقيه موزس هس وبرونو باور المتأثرَيْن بأعمال الفيلسوف المادي فيورباخ .
تَعَرَّفَ ماركس بعد
ذلك في فترة إقامته في باريس على أفكار
الاشتراكيين الفرنسيين ، وساهم كل ذلك في تحوله من المثالية الهيغلية إلى المادية،
ومن الديمقراطية الثورية إلى الشيوعية الثورية.
عمل ماركس مُحَرِّرًا في صحيفة الراين ،
وتولى رئاسة تحريرها في أكتوبر/تشرين الأول 1842، لكن الجريدة مُنعت من الإصدار في
بداية 1843، ثم عمل بعد ذلك بسنوات مراسلاً لصحيفة " نيويورك تريبيون "،
وقضى الجزء الأهم من حياته في التأليف والكتابة.
تولى
رئاسة فرع الرابطة الشيوعية في بروكسل عام 1847 ، وأسَّس جمعية العُمَّال الألمان
بالمدينة نفْسها، وعمل بِمَعِيَّة صديقه فريدريك إنجلز على صياغة بيان الحزب
الشيوعي بتكليف من المؤتمر الثاني للرابطة الشيوعية ، الذي عُقِد بلندن نهاية
نوفمبر / تشرين الثاني 1847 .
أسَّسَ
الجمعية الدولية للعُمَّال ( الأُمَمِيَّة الأولى ) عام 1864 لأجل توحيد صفوف
الحركة العُمَّالية بأوروبا، وسهر على صياغة رسالتها الافتتاحية، وترأسها في
الفترة ( 1866_ 1872) .
بعد نيل درجة الدكتوراة في الفلسفة وتجربة
قصيرة في مجال الصحافة، بدأ اهتمام ماركس بدراسة الاقتصاد السياسي أثناء إقامته في
باريس عام 1843، وقد اطَّلَعَ في هذه الفترة على كتابات أهم المفكرين في هذا
المجال مثل آدم سميث ، وديفيد ريكاردو، وجون ستيوارت ميل .
أنتجَ ماركس عِدَّة أدوات نظرية وتحليلية،
وصاغَ جُملة من المفاهيم في إطار نقده للمجتمع الرأسمالي ، ودعوته إلى ضرورة
الثورة البروليتارية بُغية التحول إلى الاشتراكية ، وسَعْيه في التأكيد على أن هذا
التحول حتمية تاريخية بالإضافة إلى كَوْنه ضرورة . وقد تحدَّثَ عن مفهوم الصراع
الطبقي في البيان الشيوعي، واعتبر تاريخ أي مجتمع هو تاريخ صراعات طبقية ، بسبب
تضارب المصالح بين الطبقات الاجتماعية ، ورأى أن رَحى هذا الصراع داخل المجتمع
الرأسمالي تدور بين أصحاب الرأسمال المُضْطَهِدِين والعُمَّال المُضْطَهَدِين .
صاغَ
مفهوم المادية الجدلية انطلاقًا من مفهومَي الجدلية عند هيغل والمادية عند فيورباخ
، ووظَّفه لكي يُقدِّم تَصَوُّرًا ماديًّا للتاريخ الإنساني،وشرح مفهوم الاغتراب
(الاستلاب) الاقتصادي، الذي يؤدي بدوره إلى اغتراب اجتماعي وسياسي للإنسان،
وَفْقًا لأطروحته. كما قَدَّمَ مفهومه الخاص عن القيمة ، والذي طَوَّره انطلاقًا
من مفهوم القيمة عند الاقتصاديين الكلاسيكيين ، وابتكرَ مفهومَي فائض القيمة
وتراكم الرأسمال اللذين جعلاه يتنبأ بعدم قابلية النمط الاقتصادي الرأسمالي في
الاستمرار ، وحتمية تحوُّل المجتمع الإنساني إلى النمط الاشتراكي في الإنتاج .
اعتبر
ماركس أن فائض القيمة ( الذي يُعَرِّفه بأنه قيمة العمل الفائض الذي يستمر العامل
في أدائه بعد أن يكون قد أنتج قيمة أجره الذي يتقاضاه ) هو استغلال لطبقة
العُمَّال من طرف طبقة الرأسماليين . وأوضحَ عواقب استثمار أصحاب الرأسمال للجزء
الأكبر من فائض القيمة في مراكمة المزيد من أدوات وعناصر الإنتاج على النمط
الرأسمالي، حيث تُؤدِّي هذه الدينامية إلى تراكم الرأسمال، ومِن ثَمَّ إلى مُضاعفة
القدرات الإنتاجية باستمرار، مِمَّا يُفضي إلى حالة من فرط الإنتاج ومَيْل مُعدِّل
الربح إلى الانخفاض ، وتنشأ بذلك أزمات دورية نتيجة لِمَا يَعتبره تناقضًا
داخليًّا للرأسمالية يُؤذِن بانهيارها ، وَفْقًا لرأيه .