وُلد الفيلسوف
الألماني كارل ياسبرز ( 1883_ 1969 ) في أولدنبورغ بألمانيا،
لعائلة ثرية محافظة متأثرة بالثقافة السياسية التحررية لألمانيا الشمالية ، صبغت
أفكاره بطابع
ديمقراطي تحرري وبنفحة دينية متشددة . وتُوُفِّيَ في بازل بسويسرا .
حَظِيَ برعاية خاصة من ذويه بسبب مرضه منذ
الطفولة بالرئتين ثم بنقص التروية . وهذا أثَّرَ بصورة مباشرة في توجهه الفكري نحو
العلوم الإنسانية، فاهتمَّ مُنذ الصغر بالفلسفة،وكان يخشى من اتخاذها حرفة في
الحياة، فتوجَّه إلى دراسة علم النفس وطب الأمراض العقلية ، وحصلَ على الدكتوراة
من جامعة هايدلبرغ عام 1908 . وعُيِّنَ أستاذًا لعِلم النفس عام 1916 ، ثم أستاذًا
للفلسفة عام 1921 في الجامعة نفسها ، إلى أن أقصته الحكومة النازية عن التدريس في
الجامعة بدعوى أن زوجته يهودية ، ولَم يعد إلى الجامعة إلا بعد انتهاء الحرب عام
1945 .
لَم يكن ياسبرز يهتم بالسياسة ولا الأحوال
الاجتماعية، بل كان يُركِّز كل تفكيره في البحث العلمي في ميدان العلوم النفسية
والأمراض العقلية. وتفادت أعماله النقاشات السياسية، وركَّزت على الجوانب الفلسفية
، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، فأدركَ أهمية المشكلات السياسية
والتاريخية والاجتماعية في حياة الإنسان . وأحس بمرارة ذلك ولا سِيَّما بعد أن
اشتد الخلاف بينه وبين هايدغر الذي أعلن صراحة دعمه للنازية ، ثم جاء إيقافه عن
التدريس في الجامعة بسبب زوجته ، وارتباطه بسياسيين وفلاسفة تحرريين أمثال ماكس
فيبر . فكتبَ عمله السياسي "الشرط الروحي للعصر"(1931 )، ينتقد فيه
الديمقراطية البرلمانية، ويُعزِّز انتماءه الفكري لماكس فيبر بغرض حفظ النظام
السياسي في ألمانيا،ويُعلن _ خلافًا لهايدغر _ معارضته للاشتراكية الوطنية. بعد انتهاء
الحرب العالمية الثانية ( 1945 )، وانهيار النظام الاشتراكي الوطني ( النازية ) ،
استعادَ ياسبرز مجده، وأدى دورًا هامًّا في العملية السياسية الألمانية،
فبرزَ _ بوصفه فيلسوفًا وأستاذًا
مُرَبِّيًا للأجيال_نصيرًا قويًّا لقضايا التربية الديمقراطية السياسية والمبادئ
الأخلاقية المدنية . ساعده على ذلك كتاباته وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية ، ولا
سِيَّما كتابه " مسألة إحساس الألمان بالذنب" ( 1946 ) عن اضطهاد اليهود
، متمثلاً التجربة من خلال عذاب زوجته . كما سعى إلى إعادة بناء العملية التعليمية
في جمهورية ألمانيا الاتحادية، فنادى بإصلاح الجامعة، وركَّز على ضرورة نشر
الثقافة المدنية الديمقراطية في جميع أنحاء ألمانيا .
يُعتبَر ياسبرز مِن أغزر الفلاسفة الوجوديين
المعاصرين إنتاجًا ، وأوضحهم تفكيرًا ، وأوسعهم اهتمامًا بالعلوم الإنسانية .
وتربو مؤلفاته على الثلاثين ، وبعضها يزيد على ألف صفحة ، وأهمها: " عِلم
النفس المرضي العام " ( 1913 )، و" سيكولوجيا النظرات في العالَم "
( 1919 ) . وهو الكتاب الذي ينتقل به ياسبرز من عِلم النفس إلى الفلسفة ، ويصفه
بأنه كتاب وجودي أصيل، أسَّس ياسبرز فيه أنماطًا ونماذج للمواقف النفسية والعقلية
شبيهة بنماذج فيبر المثالية ، في محاولة لتحليل جوهر الحياة العقلية الإنسانية ،
أو وجهات النظر العالمية ، وبناء مذهب معرفي وجودي مُنظَّم . وكتابه الضخم"
الفلسفة"في ثلاثة مجلدات ( 1932)، وهو أروع ما كتب أو تُحفته ، تأثرَ فيه
بفلسفة هيغل في عملية المعرفة والإدراك والوعي الإنساني ، في محاولة لإعادة بناء
المثالية الكانتية من منظور التجربة والحرية.و"العقل والوجود"(1935)،
و"فلسفة الوجود"( 1938) .