1
تحليل
الأفكار لا يتم بِمَعْزِل عن حاجةِ الفرد إلى الانتماء، وحِرْصِه على تأكيد الذات، فالانتماءُ يَمنح الأفكارَ شرعيتها الوجودية ، ومَدَاها الأخلاقي ، ومَجَالها
الحَيَوي . وتأكيدُ الذات يمنح الأفكارَ القُدرةَ على التعبير عن ذاتها، وتحقيق
التوازن بين الخيال والواقع ، وإنشاء منظومة من التطبيقات الإبداعية على الأرض . وهذا
يعني أن الأفكار مُجتمع مركزي شديد الاستقطاب ، يقوم على سياسة المحاور العقلانية
التي تتوازى معَ الظواهر الثقافية، وتتقاطع معَ التجارب الاجتماعية . وبما أن
الأفكار مُجتمع متكامل قائم بذاته ، فلا بُد أن يُنتج علاقات اجتماعية خاصَّة به .
وإذا كانت الأفكارُ نَتَاج التفكير المُتكرِّر والتَّأمُّل العميق ، فإنَّ
العلاقات الاجتماعية نَتَاج عملية التَّوليد المُستمر للأفكار ، التي تُؤَسِّس
سُلطةَ المعرفة في بُنية المُجتمع الإنساني . وهذه السُّلطة _ بما تَملكه مِن آلِيَّات
وأدوات _ قادرةٌ على تحويل الإفرازات الذهنية إلى سلوكيات عمليَّة ، ونقل الوَعْي
الإنساني من المَبنى ( الشكل ) إلى المَعنى ( الجَوهر ) ، وعِندئذ يُصبح الخيالُ
الهُلامي واقعًا مَحسوسًا ، وهذا يُساهم في بَلْوَرة شخصية الفرد الذاتية ،
وتَكوينِ سُلطة المجتمع الاعتبارية . وكُل مُجتمع يَعرِف مَسَارَه ويُدرِك مَصِيرَه
، يَستمد قُوَّتَه الشرعية مِن سُلْطَتَين في آنٍ معًا : الوجود والمعرفة . وهاتان
السُّلطتان تُحرِّران رُوحَ الوَعْي مِن جَسَد المنظومة الاستهلاكيَّة الماديَّة ،
من أجل ضمان الانتقال السَّلِس للأفكار مِن الذهن المُجرَّد إلى الوجود المُحقَّق
. وانتقالُ الأفكار يُمثِّل _ في واقع الأمر _ رحلةَ المجتمع من جسد اللامعنى في
الفراغ إلى تجسيد المعنى في الوجود .
2
كُلُّ عَلاقةٍ
فِكرةٌ ، وكُلُّ فِكرةٍ سُلطةٌ . والمعرفةُ هي النَّوَاة المركزية بَيْن هاتَيْن
القاعدتَيْن . وهذا يعني أنَّ الكَينونة الكامنة في جَوهر المُجتمع عبارة عن رِحلة
وجودية مُستمرة لها خَط سَير يحتوي على معالم واضحة ، لكنَّها تُبدِّل مواضعَها،
وهذه المعالم تُمثِّل عناصرَ المجتمع الفلسفية، وهي: العلاقة والفِكرة والسُّلطة والمعرفة
. وحرف ( الواو ) يُفيد العَطْفَ، ولا يُفيد الترتيبَ أو التعقيبَ . وبالتالي ،
فهذه العناصر الأربعة تُبدِّل مواضعَها ، وتُغيِّر أماكنَها ، ولَيس بالضَّرورة أن
يَأتيَ كُل عُنصر بَعْد الآخَر . وسبب عدم الثبات يَعُود إلى أنَّ قيمة المعرفة
نِسْبِيَّة ، ولَيست مُطْلَقَةً . وكُل أمر نِسبي هو مُتغيِّر ومُختلف باختلاف
الزمان والمكان وطبيعة الناس . وهذه العناصر الأربعة يتمُّ صَهرها في بَوتقة
المُجتمع ، فتُصبح جُزءًا مِن كِيَانه ، لا تَنفصل عن مَعَناه وحقيقة وجوده ، ولا
يُمكن استرجاعها ، ولكن يُمكن مُلاحظة آثارها وتَتَبُّع تأثيرها .
3
الخيالُ هو
بدايةُ الإبداع ، لكن الواقع سابق على الخيال ، لأنَّ الفرد يأخذ الخِبرات مِن
عَناصر البيئة المُحيطة به ، ويكتسب التجارب من المُكوِّنات الحياتيَّة التي
يَستطيع إدراكَها . والإنسانُ إذا لَم يُدرِك شيئًا بِحَوَاسِّه ، فلا يُمكن أن
يتخيَّله . وكما أن الخيال هو بداية الإبداع ، فإن الواقع هو بداية الخيال ، لأنَّ
وظيفة الخيال تغيير الواقع ، وليست وظيفة الواقع تغيير الخيال ، وهذا يُثبِت أن
الخيال مهما كان مُتَحَرِّرًا مِن ضُغوطات الأحداث اليوميَّة ، فهو تابع للواقع
بشكل أوْ بآخَر . والخيال هو الوسيلة المعرفية ، والواقع هو الغاية الوجودية .
وكما أنَّ المِلْح إذا ذابَ في الماء ، يُصبح جُزءًا مِن ماهيَّة الماء ، كذلك
الخيال إذا ذاب في المجتمع ، يُصبح جُزءًا مِن حقيقة المجتمع الواقعية ، ولا يُمكن
الفصل بين الخيال والواقع ، وإذا أفلتَ الشيءُ من سيطرة الفرد ، لا يُمكن استرجاعه
، أوْ إعادته إلى حالته الأُولَى .
4