وُلد عالِم النفس
السويسري كارل يونغ (1875 _ 1961) في بلدة كيسول مِن مُقاطعة ثورغاو بسويسرا. كان
والده قسيسًا كالفينيًّا في الكنيسة الإنجيلية بسويسرا . وكانت أسرة يونغ عريقة في
المجال الديني ، وكذلك جَده لأُمِّه، لذلك كانت الكنائس والمقابر هي مكان طفولته .
كان طفلاً غريبًا ، ولَم يكن له إخوة وأخوات
، لذلك لَم يكن أمامه سوى أن يتخيَّل ألعابًا ، ويلعبها مع نفْسه . وكان يونغ في
طفولته الأولى شديد الحساسية ، ويميل للعزلة واللعب منفردًا .
نشأ
يونغ في مدينة بازل ، والتحقَ بمدرستها ، لكنه ترك المدرسة لإصابته بالصرع بعد سقوطه على الأرض،وما إن
شُفِيَ من هذا المرض حتى عاد إلى المدرسة،واحتل المرتبة الأولى في الرياضيات، وكان
يميل للعلوم ، خاصة الجيولوجيا
والحيوان والحفريات ، وكان شديد الاهتمام بالعقائد الدينية المختلفة والحضارات
الإنسانية والآثار ، خاصة ما تعلق باليونان ومصر وعصور ما قبل التاريخ ، مع مَيل
واضح للتأمل والتفكير. ودرس الطب في مدينة بازل، وتخرَّج طبيبًا .
بدأ يونغ التدرب على ممارسة الطب النفسي عام
1900 ، وذلك عندما أصبح مساعدًا في مستشفى برجولزلي للأمراض العقلية ، وهي مصحة
ملحقة بجامعة زيورخ ، وكانت تحت إدارة الدكتور إيوجين بلولرو . استمرت أبحاث يونغ
تحت إشراف هذا الدكتور ، إلى أن تطوَّرَ يونغ في هذا المجال. ولَم يكد عام 1900
يدخل حتى أصبح يونغ كبير الأطباء ، ومحاضرًا في كلية الطب بجامعة زيورخ . وفي عام
1902 توجَّه يونغ إلى باريس ، ودرس عند جانيت فترة من الزمن ، ارتقى خلالها إلى
رتبة طبيب رئيسي .
نشر يونغ عددًا من المقالات أكسبته شهرة
واسعة، وكانت قد منحته جامعة كلارك الأمريكية درجة الدكتوراة الفخرية . وكان في
غضون ذلك يقوم بإرساء قواعد الطب النفسي التحليلي، ويُثبِت تجريبيًّا ما ذهب إليه
سيغموند فرويد نظريًّا
، مِمَّا جعله يُقابله شخصيًّا في عام 1907 ، وأثمر هذا اللقاء عن صداقة دامت
عِدَّة سنوات . وكان فرويد يطمع أن يَخْلفه على عرش التحليل النفسي ، ولكن آراء
يونغ وتجديداته أدَّت إلى القطيعة بينهما ، خصوصًا مع وجود اختلافات نظرية في
التحليل النفسي .
وفي عام 1911 ، أصبح يونغ أول رئيس لجمعية
التحليل النفسي الدولية التي أنشأها هو بنفْسه . وفي عام 1930 منحته الجمعية
الألمانية لعلم العلاج النفسي رئاستها الفخرية .
اعترفَ يونغ في عام 1906 أثناء دراسته للعته
المبكِّر وتجارب تداعي الكلمات بأنه مدين للاكتشافات التي أحدثها فرويد . ولكنه
كان غير متحمس لطريقة فرويد في العلاج النفسي ، وإصراره على النشاط الجنسي الطفولي
المبكِّر . وظهر الخلاف بينهما علنًا في محاضرات يونغ في فوردهام ( نيويورك ) عام
1912 . في الفترة ( 1913_ 1919 ) بحث يونغ في أعماق اللاشعور لديه، وتجادل مع ذاته فلاحظ ظهور
نماذج شعورية مختلفة، وشعر أنه يتدخل في العمليات الفردية ويكتشف نفْسه، وكان
يعاني بعض الانفعالية (القلق الانفعالي)مُعتقدًا أن هذه الأعراض تُشبه الأمراض
التي أصابت فرويد. وفي عام 1944 ، أُنشِئ كرسي أستاذية لعلم النفس الطبي خِصِّيصًا
ليونغ في جامعة بازل ، بَيْدَ أن سوء صحته حال بينه وبين شغل منصب الأستاذية .
على الرغم من أن نظرية يونغ في الشخصية هي
بالدرجة الأولى نظرية في التحليل النفسي بسبب تأكيدها العمليات اللاشعورية ، إلا
إنها تختلف عن نظرية فرويد ، إذ كانت أبرز سمات نظرة يونغ إلى الإنسان وأكثرها
تمايزًا أنها تَجمع بين الغائية والعِلِّية ، فالسلوك الإنساني لا يقوم فقط على
تاريخ الشخص الفردي والعنصري ( العلية )، وإنما أيضًا يقوم على الأهداف والطموحات
المختلفة ( الغائية ) ، وكل من الماضي والمستقبل يقودان سلوك الفرد في الحاضر .
يتكون بناء الشخصية الكلية عند يونغ من عدد من الأنظمة المنفصلة والمتفاعلة، وأهم هذه الأنظمة: 1_ الأنا: هي العقل الشعوري. تتكون من مجموعة من الْمُدْرَكَات الشعورية والذكريات والأفكار والوجدانات،فهي مركز إدراك الفرد. 2_ اللاشعور الشخصي: يبدأ اللاشعور الشخصي في التكوُّن منذ الميلاد من الخبرات التي يكتسبها الفرد في حياته، وهذه الخبرات كانت في البداية شعورية ثم فقدت طابعها الشعوري ، وصارت لاشعورية بسبب عوامل الكبت والنسيان . 3_اللاشعور الجمعي : يرى يونغ أن هناك لاشعورًا جمعيًّا مُشْتَرَكًا ومشاعًا بين البشر جميعًا ، وإن تفاوتت درجاته، ويرجع شيوع اللاشعور الجمعي إلى تشابه العقل في جميع أجناس البشر، ويرجع هذا التشابه إلى التطور المشترَك ، إذ يوجد بداخل كل مِنَّا قَدْر ما من هذا اللاشعور الجمعي، وإن كان هذا القَدْر يختلف من فرد إلى آخر، فكأن اللاشعور الجمعي هو المخلَّفات النفسية التي ورثناها عن أسلافنا من البشر . 4_ القناع : استعار يونغ فكرة القناع من مصطلحات المسرح وقصد بها في نظريته أن لكل مِنَّا قناعًا شخصيًّا يبدو به أمام الناس، وغالبًا ما يكون مُغايرًا لحقيقته التي يعرفها هو عن نفْسه ، فكأنه يظهر بشخصية مُعيَّنة اتفاقًا مع تقاليد المجتمع ، وتَمَشِّيًا مع ما يرتضيه الناس .