وُلد
الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري ( 1265_ 1321) في مدينة فلورنسا لعائلة متوسطة
الثراء من النبلاء والأشراف، وكان يُشير إلى ذلك في كتاباته بفخر . ولَم يُقدِّم
تاريخ الأدب الإيطالي أيَّة تفاصيل حول طفولته ونشأته ، وبقيت المرحلة الأولى من
حياته محاطة بالغموض . فَقَدَ والدته وهو في الثالثة عشرة،ووالده قبل بلوغه
العشرين. وكان يحب الرسم والموسيقى، واختار الطب والفلسفة ، إلا أنه أولى اهتمامه
للأدب والشعر ، وكانت صلاته وثيقة مع أدباء عصره. بدأ دانتي نشاطه عام 1300 وسط
صراع سياسي واجتماعي بين البابوية والملكية . فقد تقاسمت مدينة فلورنسا شريحتان :
شريحة البِيض ، وتضم الأرستقراطيين والبرجوازيين المؤيدين لحكومة ديمقراطية ،
وشريحة السُّود ، وتضم أغلبية العائلات الكبرى والحزب المناهض للديمقراطية.
تقرَّبَ دانتي من البِيض الذين رفضوا تدخُّل البابا بونيفاتشو الثامن في شؤون
المدينة الداخلية. وذهب دانتي بمهمة رسمية إلى روما ، للتفاوض مع البابا ،
مُدافعًا عن مصالح الملِك ، وساعيًا إلى الفصل بين السلطتين السياسية والدينية ،
وعَلِمَ قُبَيل عودته ، وهو في العاصمة في كانون الثاني 1302 ، بإدانته وعزله من
مهامه مدة عامين ، وَتَمَّ اتهامه بتحريض العدو السياسي ، وبقي مُلاحَقًا منفيًّا
حتى وفاته . ورفض دانتي _ عندما سعى بعضُهم إلى التسوية _ تقديم أيَّة تنازلات ،
فصدرت بحقه عقوبة الموت حرقًا مع أولاده الثلاثة .
اقترنَ
اسم دانتي باسم قصيدته الشهيرة " الكوميديا الإلهية " ، وله مؤلفات أخرى
لا ترقى إلى مستوى قصيدته هذه . أولها " حياة جديدة " ( 1292_ 1293) ،
وهي مزيج من الشِّعر والنثر، في إطار رواية استوحاها من مؤلفات كُتبت باللغة
اللاتينية في العصور الوسطى .
ونظم
أيضًا مجموعة قصائد تحت عنوان " قوافي " . أمَّا مُؤلَّفه "
المأدبة " ( 1303) ، فقد عكف فيه على دراسة الفلسفة والأدب القديم ، وأظهرَ
تعطشًا للمعرفة لا حدود له .
أمَّا
قصيدته الشهيرة التي تُوصَف بأنها رائعته " الكوميديا " ، التي أُضيفت
إليها صفة " الإلهية" لاحقًا عام 1555، عند صدور طبعة البندقية ، فقد
استغرق في نظمها ما يزيد على خمسة عشر عامًا ، وأنجزها قبل وفاته بمدة قصيرة . وهي
قصيدة تضم مئة أنشودة مُكوَّنة من 14229 بيتًا ، في ثلاثة أجزاء تحمل عناوين
" جهنم " ، " الْمَطْهَر " ، " الفِرْدَوْس " .
وتُمثِّل الإدانة والجزاء والنعيم. ويتألف كل جزء من 33 قصيدة ، بعدد مُتساوٍ من
الأبيات ، مُضيفًا أنشودة في المقدمة ، ليصل إلى المئة رمز الكمال . وبطلها هو
دانتي نفسه التائه عند مُفترق الطرق وسط غابة مُظلمة تمتلئ بالذنوب. ويصف في هذه
القصيدة عالَمًا أبدع في تَخَيُّلِه ، فيه مكان للخير ، وكذلك للشر، الذي يراه
الشاعر نتيجة العجرفة المفرطة في سلوك أول ملاك تمرَّد على حكمة الرب . ويرى
دانتي أن مصدر الشر هو الإنسان ذاته، إذ يقول في " المطهر " وفي القصيدة
السادسة عشرة : (( إذا كان العالَم الحالي منحرفًا وضالاًّ ، فابحثوا عن السبب في
أنفسكم )) ، لأن الإنسان يبحث دومًا عن مصدر الشر فيما حَوْله ، مُنَزِّهًا نفسه ،
ومُلْقِيًا المسؤولية على السماء. وتكمن المأساة_ في رأي دانتي _ في العقول
النائمة ، فالْمُدانون في "جهنم" هُم أولئك الذين فقدوا القدرة على
التفكير والإدراك والفهم. وهو عندما ينظر إلى أعماق الإنسان يرى أن قلبه يأكله الحسد
والبخل والطمع. ويَتصوَّر دانتي موقع " جهنم " بعيدًا عن الإله الذي يُشِعُّ
نورًا، ويَتصوَّر " المطهر" جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة ،
وترمز إلى فِرْدَوْس الإيمان على الأرض ، وهو يصبو في قرارة نَفْسه إلى رحلة
ارتقاء روحي نحو الكمال ، إلى العالَم الآخَر ، بهدف التقرب إلى الخير الأعلى
والسكينة الدائمة. فالحقيقة الإلهية في نظر دانتي واحدة وإن اختلفت الديانات ،
حقيقة أعلنها الأنبياء ، وأولهم موسى. وكان دانتي يؤمن بوجود إله واحد أبدي يُحَرِّك
ولا يتحرك ، وبأن هذه الحقيقة موجودة في الكتب السماوية ، ويمكن لأي إنسان أن
يكتشفها إن أعملَ عقله ، وكان في الوقت ذاته يدافع عن طبقة حاكمة نبيلة تصل إلى
السُّلطة بالعِلم والفضيلة . ولا يزال دانتي يتمتع بشهرة عالمية ، وتعود
أهمية " الكوميديا الإلهية " بعد ما يزيد عن ستة قرون إلى أنها أظهرت
فكر أبناء فلورنسا ، أكثر المدن الإيطالية أهمية آنذاك ، وأكثرها نفوذًا على
الصعيد الديني ، إضافة إلى أن نفحة أفلاطونية فاحت منها في القرن الرابع عشر، مِمَّا
تجلى في قصائد دانتي خاصة. كما تميَّزت " الكوميديا " بأسلوب سلس وبسيط أبرزَ
قدرةَ الشاعر على بناء صرح أدبي من صروح العصور الوسطى، شبَّهه النقاد بكاتدرائية
تحيطها رَهبة لا تزال تُقلِق الإنسان وتُذكِّره بنهايته .