وُلد الأديب الهندي رابندرانات طاغور ( 1861 _ 1941 ) في
القسم البنغالي من مدينة كالكتا لأسرة ثرية مِن طبقة البراهما التي تمتلك سُلطةً
دينية مُقدَّسة . وهذه الأسرة النبيلة ( آل طاغور ) كانت رائدة العمل الاجتماعي
والفكري ، وسعت جاهدةً لربط المفاهيم الهندية التقليدية بالثقافة الغربية . لقد
حفر طاغور اسمه في تاريخ الأدب العالمي بأحرف من ذهب . فكانَ أول آسيوي يفوز
بجائزة نوبل للآداب في عام 1913. وهذا يعني أنَّه فتح أنظار العالَم على أدباء
القارة الآسيوية وأعمالهم الإبداعية ، وأخرجَ الأدب الآسيوي من العَتَمَة إلى
دائرة الضَّوء .
لَم يحصل طاغور على تعليم نظامي في أيَّة مدرسة ، لكنه
تلقى تعليمه في البيت على أيدي مُعلِّمين خُصوصِيِّين تحت إشراف مباشر من أسرته
العريقة ، التي تعتني بتعليم أبنائها أشد العناية ، وتحرص على تزويدهم بالمعارف
والثقافة ، حِفاظًا على المكانة الدينية والفكرية للأسرة ، وحِرْصًا على وزنها
الاجتماعي . وقد درس التاريخ والعلوم الحديثة وعِلم الفلك واللغة السنسكريتية (
لغته الأم ) وآدابها واللغة الإنجليزية . وعندما بلغ السابعة عشرة من العمر ،
أرسله والده إلى إنجلترا لدراسة الحقوق ، حيث التحق بكلية لندن الجامعية ، لكنه
فقد شَغَفَه بالدراسة ، فانقطعَ عنها ، وعاد إلى وطنه دون أن ينال أيَّة شهادة .
بدأ مسلسل الأحزان مُبَكِّرًا في حياة طاغور ، ففي
الرابعة عشرة من عُمره ، تُوُفِّيت والدته . وبَقِيَ مَوتها جرحًا عميقًا في نفْسه
لا يُفارقه. وفي عام 1883 ، تَزوَّجَ طاغور وهو في الثانية والعشرين بإحدى قريباته
التي كانت في العاشرة من العُمر . وقد أحبَّها حُبًّا شديدًا ، وتغزَّل بِها في
أشعاره . وكان هذا الحب تعويضًا له عن فقدان أُمِّه التي لَم يَقْدِر على نسيانها
. وكانت سعادته معَ زوجته محاولةً لنسيان أحزانه العميقة. لكنَّ هذه السعادة لَم
تَدُمْ. فبعد زواجه بسنة أقدمتْ شقيقته على الانتحار ، وهذه الفاجعةُ سَبَّبت له
صدمةً هائلة ، وأدخلته في الحزن والاكتئاب . وكما قِيل : المصائب لا تأتي فُرادى ،
فبعد سنوات قليلة ، تُوُفِّيت زوجته وهي في مُقتبل العُمر ، ولحقَ بها ابنُه
وابنته وأبوه في الفترة ( 1902 _ 1918 ). وهذا الغيابُ الشامل أفقده صوابَه ،
وسبَّب له آلامًا عنيفة، وجُروحًا عميقة . لقد شَعر أنه زهرة تذبل شيئًا فشيئًا ،
أو شجرة تتساقط أوراقُها ورقةً ورقةً . لقد أحسَّ أنه يموت تدريجيًّا . ولكن ،
بسبب تربيته الدينية والفكرية ، استطاعَ التماسكَ ، والوقوفَ على قدميه . وفي
الأمثال : الضربةُ التي لا تَقتلك تُحييك وتزيدك قوةً .
لقد قاده مَوْتُ أفراد أسرته واحدًا تِلْو الآخر إلى
المحبة الإنسانية بمفهومها الواسع بدلاً مِن التمسك بالحب الفردي الخاص . ولَم يعد
يَتعلق بالأشياء ، لإيمانه بأن الفراق أمرٌ حتمي ، وأن الموت هو نهاية الأشياء .
وهذه الفلسفةُ العميقةُ منحته القدرةَ على تحويل الألم إلى فرح ، والنظر إلى
الحياة على أنها قيمة مُقدَّسة أعلى من الأحزان والآلام .
مضى طاغور إلى الحياة الأدبية ، واعتبرَها الحياة
الحقيقية للفرد والمجتمع ، وانطلقَ إلى عالَم الشِّعر الذي رأى فيه الصفاء والنقاء
، فنشرَ عددًا من الدواوين الشِّعرية تَوَّجها في عام 1890 بديوانه " ماناسي
" الذي شَكَّلَ قفزةً نوعية في تجربته الشِّعرية ، والشِّعر الهندي عامةً .
ثم انتقلَ إلى البنغال الشرقية ( بنغلاديش حاليًّا ) لإدارة ممتلكات العائلة .
وبَقِيَ فيها عشر سنوات .
وكانت هذه الفترة من أخصب فترات حياته على المستوى
الإبداعي ، فقد اكتشفَ الطبيعة من جديد ، واحتكَّ مع القرويين البسطاء ، وكتبَ
القصصَ القصيرة مِن وَحْي معاناتهم اليومية ، وأحلامهم الضائعة ، وفقرهم ، وجهلهم
، وأمراضهم ، دون أن يُخفيَ تعاطفه معهم . وقد نجحَ في التقاط صور المعاناة
ومَزْجها بِرُوح الدُّعابة . وهذه التقنية في الكتابة يمكن تسميتها بالكوميديا
السَّوداء . لقد كان طاغور طاقةً أدبيةً جبارة ، قدَّم للتراث الإنساني أكثرَ من
ألف قصيدة شعرية ، وخمسًا وعشرين مسرحية ، وثماني روايات ، ومئات الأغاني ، اثنتان
منها صارتا النشيد الوطني للهند وبنغلاديش . وقد ساهمَ ظهور ديوانه " قُربان
الأغاني " باللغة الإنجليزية في عام 1912 ، وانتشاره في أوروبا في حصوله على
جائزة نوبل بعد عام واحد فقط ( 1913) .
لقد ذُهل الغربيون مِن مستوى شِعره ، وفُوجئوا بالصور
الشِّعرية ذات الجمال الصوفي النابع من الثقافة الهندية . وكان أول أديب شرقي يفوز
بالجائزة . وفي عام 1915 نال وسامَ الفارس من مَلِك بريطانيا جورج الخامس ، لكنه
خلعه في عام 1919 بعد قيام القوات البريطانية بارتكاب مجزرة راح ضحيتها أكثر من
400 متظاهر هندي .
ترتكز فلسفة طاغور على ثلاثة مبادئ : الأول _ رفض التعصب
بين الطوائف والأديان في الهند . الثاني _ محبة الإنسانية جمعاء بدلاً من الحب
الفردي والخاص . الثالث_ إيمانه بالكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني ، وهذا كان
سبب خلافه مع الزعيم الروحي الهندي غاندي الذي اعتمد على الزهد وبساطة العيش ، وقد
اعتبرَ طاغور هذا الأمر تسطيحًا لقضية المقاوَمة .