حقائق الوجود الاجتماعي تُمثِّل نظامًا إنسانيًّا قادرًا
على تأويلِ الأنساق الثقافية وتجميعِ الإفرازات المعرفية، وتركيزِها في بؤرة الأفكار
التي تتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية . وإذا انتقلت الظواهرُ النظرية ذات الطبيعة
الفلسفية من التَّجريد إلى الواقع، فإنَّ معايير جديدة ستنشأ في المجتمع ، وتُعيد
صياغته وفق أساس عقلاني أخلاقي ، يُوازن بين الشعور المعنوي باعتباره ماهيَّةً
وجوديةً للتماسك الاجتماعي ، وبين المصلحة المادية باعتبارها قُوَّةً دافعةً
لأحلام الفرد وطاقاتِ الجماعة . وعمليةُ التوازن بين الشعور المعنوي والمصلحة
المادية هي الضمانة لحفظ المجتمع كَجِسْم حَي وفَعَّال، يملك القُدرةَ على مُمارسة
أنشطته الحيوية، وتحقيق الاستقرار الذاتي في المشاعر الإنسانية والأفعال الإبداعية
والتطبيقات الواقعية ، بدُون الحاجة إلى إسناد خارجي ، أو البحث عن شرعية خارج
حدود المجتمع ، لأن المجتمع الحَيَّ والفَعَّال هو مانح الشرعية لِنَفْسه ، وواضع
القوانين لنظام حياته ، ولا يَنتظر الشرعية مِن أحد ، ولا يأخذ القوانين مِن غَيره.
وهذه هي فلسفة الوجود الاجتماعي النابعة مِن طبيعة كِيانها ، والعارفة بحدوده ،
والمُدرِكة لأبعاده .
2
الوجودُ الحقيقيُّ يقوم على رُكْنَيْن: الوَعْي المعرفي
الذي يُكوِّن ضوابطَ التغيُّر الاجتماعي في ضَوء التطورات الثقافية ، والقُوَّة
الذاتية التي تُجسِّد الشَّرعيةَ والمَشروعيةَ، شَرعية الحُلْم الإنساني ومَشروعية
تطبيقه على أرض الواقع. والوَعْي والقُوَّة مُتلازمان ومُندمجان ، يُوجَدان معًا ،
ويَغيبان معًا . وإذا حدث انفصال بينهما ، فهذا دليل على عَجْز المجتمع الإنساني
عن تَوليدِ أنساق معرفية إبداعية ، وتحويلِ الكلام إلى فِعْل ، وتأسيسِ مبادئ
منطقية تَحكم السلوكَ الفردي ، وتتحكَّم بقوانين الجماعة . لذلك ليس غريبًا أن
يكون الوَعْي هو قُوَّةَ الفرد ، والقُوَّة هي وَعْي الجماعة ، وهذا الترابط
المركزي هو أساس التلاحمِ الإنساني، والالتحامِ بين مُكوِّنات النسيج الاجتماعي. ولا
يُمكن تشييد البناء الاجتماعي على قاعدة الحرية والتحرر ، حرية التفكير والتحرر من
الخَوف، إلا بتجسيد الوَعْي في خصائص المجتمع الإنساني ، لحمايته مِن التفكك
والصراع مع العناصر الداخلية والصدام مع العناصر الخارجية . وبما أن الاستقرار شرط
للإبداع ، والإبداع طريق النهضة ، كان لِزَامًا إنتاج أنساق ثقافية وظواهر
اجتماعية ، تُدرِك قيمةَ الوَعْي وأهميته ، وتُوفِّر له حاضنةً شعبيةً ، كي يصيرَ
أسلوبَ حياةٍ وثقافةَ مُجتمعٍ . وعندما يحتضن الشعبُ فكرةً ما ، فإنَّه سيُدافع
عنها ، ويَحميها مِن الاندثار ، ويَمنحها شرعيةَ الوجود في قلب التفاعلات
الاجتماعية . وبذلك تُصبح للفِكرة سُلطة قائمة بذاتها ، وتأثير في المصالح الشخصية
والمنافع العامَّة . وعندما تمتلك الفكرةُ سُلطةً ذاتية ، تستغني عن سياسةِ الأمر
الواقع ، وسُلطةِ المعرفة المُستمدة من الإسناد الخارجي.والفِكرةُ الحقيقية هي
التي تستطيع الصُّمودَ في الزمان والمكان وحيدةً، بدُون عوامل خارجية ، ولا
مُسلَّمات افتراضية ، ولا حماسة المُدافعين عنها . وكُل ضوء لا يَنبع مِن ذاته ،
فمصيره الانطفاء عاجلًا أَمْ آجِلًا ، ومَن انتظرَ طَوْقَ النَّجَاة مِن الآخرين
فقد حَكَمَ على نَفْسه بالغَرَق ، ومَن كانت شرعيةُ وجوده مُستمدةً مِن وُجود
الآخرين ، فسيجد نَفْسَه في نهاية المَطَاف وَحِيدًا بلا وُجود ولا شرعية.
3