المنظورُ العقلاني في الحياة الاجتماعية لا
يعني تجريدَ الإنسان من القيم الروحية،وقتلَ مشاعره وأحاسيسه، وتفريغَ ذاكرته من
الذكريات ، وإحداثَ صراع بين الألفاظ والمعاني في لُغة التخاطب اليومية ، وإنما
يعني تأسيس الكَينونة الإنسانية على قواعد المنهج العِلْمي ، مِن أجل إيجاد تفسير
منطقي للسلوكيات الإنسانية والوقائع التاريخية ، والربط بينهما ضِمن إطار معرفي
يحفظ التوازن بين الظواهر الثقافية والأنشطة الاجتماعية ، وهذا يدل على أنَّ
المسار الإنساني في فلسفة التاريخ ليس مقصودًا لذاته ، وإنما هو طريق يُوصل إلى الهدف
النهائي والغاية المصيرية. والغايةُ مِن وُجود الإنسان في التاريخ هو تكوين
الثقافة وبناء المجتمع . وإذا استوعبَ الإنسانُ طبيعةَ مَوقعه في الأحداث
التاريخية ، باعتباره فاعلًا لها ، ومُنْفَعِلًا بها ، ومُتفاعِلًا معها ، فإنَّه
سَيَفهم دَوْرَه المركزي في بُنية المجتمع تاريخيًّا وثقافيًّا، ويقوم بأدائه على
أكمل وجه ، بلا عُقَد نَفْسِيَّة ، ولا شُعور بالظُّلم، ولا غرق في متاهة الغالب
والمغلوب ، ولا إدمان لَعِب دَور الضَّحِيَّة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى المُصالحةِ
بين الإنسان ونَفْسِه ( السلام الداخلي )، والمُصالحةِ بين الإنسان ومُجتمعه (
التوازن الخارجي ) . وعندما تتكرَّس الغَايَةُ الشريفة القائمة على الوسيلة
النظيفة في المجتمع مَعْنًى ومَبنى ، فإنَّ الغَائِيَّة ستُصبح فلسفةً اجتماعية
قائمة بذاتها ، أي إنَّ لكُل سُلوك إنساني في الإطار الاجتماعي هدفًا وغَايَةً ،
وهذه الغَايَةُ هي سبب التقلُّبات الإنسانية والتغيُّرات الاجتماعية . وأركانُ
فلسفة الغَائِيَّة هي الوَعْي والرمز والمعرفة والضَّرورة الحتمية .
2
الثقافةُ لا تُبنَى إلا على الفِكر المعرفي
والرمز اللغوي. والمجتمعُ لا يُبنَى إلا على المَصلحة العَامَّة والإبداع الفردي .
وهذه المُكوِّنات الوُجودية لا بُد مِن صَهْرها في منظومة عقلانية قائمة على
المنطق والأخلاق ، من أجل التعبير عن جماليَّات الحياة الواعية ، وصناعةِ التجارب
الإبداعية ، ونَقْلِها مِن الحَيِّز الفردي إلى الفضاء الجَمَاعي . وبما أن
التاريخ شَرْط لفهم الثقافة ، والثقافة شَرْط لفهم الإنسان ، فلا بُد للإنسان أن
ينطلق مِن ذاته الداخلية، ويبدأ من أحلامه الشخصية ، كَي يتمكَّن من تحليل التاريخ
باعتباره جوهرًا اجتماعيًّا لا يَقْبَل الانقسامَ ، وتحليلِ الثقافة باعتباره
بُنيةً نَفْسِيَّةً لا تَقْبَل التَّشَظِّي . والقِيامُ بهذه المُهمة
المُزْدَوَجَة يتطلَّب إيجاد نظام فلسفي للتعامل مع الطبيعة الرمزية اللغوية ذات
الارتباط الوثيق بالتفاعل الاجتماعي بين الأنا والأنا ، والأنا والآخَر . وهذا
يعني أن الإنسان يَخوض معركةَ إثبات ذاته وتكريس كِيانه وتحقيق وجوده ، في أعماقه
السحيقة وفضاءاتِ المُجتمع الرَّحبة ، في آنٍ معًا . ومن أجل حفظ التوازن في هذه
المعركة المعرفية على جَبْهَتَيْن ، ينبغي التعامل مع الطاقة الرمزية في اللغة
باعتبارها أُمَّ المعارك المعرفية ، لأن الثقافة الإبداعية جُزء من طبيعة اللغة
وخصائصها ، وتكوين السلوك الإنساني يكون مِن خلال الاندماج باللغة والبيئة .
واللغةُ لا تتعامل مع العلاقات الاجتماعية كظاهرة ذهنية هُلامية ، وإنما تتعامل
معها كتجربة معنوية ومادية ومُعَاشَة على أرض الواقع ، ذات تماس مُباشر مع معنى
الوجود الإنساني الذي يُفَسِّر الأفكارَ والأفعالَ .
3