الثقافةُ الحقيقية في
المجتمع لا تقوم على مفاهيم مُجرَّدة أو مَاهِيَّات غامضة أو تعابير هُلامية ،
وإنما تقوم على حقائق واقعية وأفكار واضحة وسلوكيات مُستقيمة ، ومُهمة الأنساق
الثقافية هي طرح الأسئلة بلا مُجاملة، وتكوين المشاعر الإنسانية القادرة على تغيير
البُنى الاجتماعية بلا تلاعُب . والمجتمعُ لا ينهض إلا بتكريس الأسئلة المصيرية
وتغيير المشاعر السلبية . وإذا استطاعَ الإنسانُ تغييرَ نظامَ حياته إلى الأفضل ،
فإنَّ أنظمة اجتماعية مُتقدِّمة ومنظومات فكرية جديدة ستنشأ وتنتشر في تفاصيل
المجتمع ، وتُعيد بناءَ الوَعْي الكُلِّي والعقل الجمعي على قاعدة تحمُّل
المسؤولية ومواجهة الأزمات ، وليس تبرير الأخطاء والالتفاف حولها ودفن النار تحت
الرماد وترحيل الملفات إلى الأجيال القادمة .
2
الإشكاليةُ
الصادمة في المجتمعات الخائفة من الحقيقة ، تتمثَّل في تحوُّل الثقافة إلى قناع
خادع ، وأداة لتزيين الواقع ، ووسيلة تخديرية للناس ، وعملية ميكانيكية لرشِّ
السُّكَّر على المَوت . والهدفُ من الثقافة ليس تجميلَ المَوت ، وإنما تجميل
الحياة ، ونقل الأنساق الاجتماعية المَيتة إلى قلب الحياة . ووظيفةُ المثقف ليست
تزيين الماضي بالشعارات ، وإنما تزيين الحاضر بالإنجازات ، واستلهام أمجاد الماضي
، وصناعة أمجاد جديدة قادرة على دفع الناس إلى اقتحام المستقبل بثقة وإصرار .
وشرعيةُ الثقافة تنبع مِن قُدرتها على صناعة أزمنة جديدة ، وتشييد أمكنة فريدة ،
بعيدًا عن استعادة الأزمنة الماضية ، واستعارة تجارب الآخرين ، لأن كُل إنسان ابن
زمانه، وكُل مجتمع له خصوصية مُتفرِّدة وماهيَّة ذاتية ، وهذا يعني عدم وجود فائدة
من تقليد الآخرين ونسخِ سلوكياتهم . وعلى المجتمع أخذ الحِكمة والعِبرة والمعنى
الرمزي من إنجازات الأمم الأُخرى وتجاربها ، ثُمَّ صناعة ظروف مُناسبة لإمكانياته
وقُدراته ، وإنشاء عوالم خاصَّة قادرة على احتضان نقاط قُوَّته ونقاط ضَعْفه.
3