وُلد الفيلسوف وعالِم النفس
السويسري جان بياجيه ( 1896 _ 1980 ) في مدينة نيوشاتيل بسويسرا . كتب مقالته
الأولى وهو في الثالثة عشرة من عُمره . كما نشر مقالات عن الرخويات اللافقرية في
الخامسة عشرة . وفي الثانية والعشرين حصل على الدكتوراة في علم البيولوجيا . وفي
عام 1921 ، عُيِّنَ مديرًا للدراسات بمعهد جان جاك روسو في جنيف .نشر بعد ذلك
كتابين من أشهر كُتبه:اللغة والفكر عند الطفل(1923)، والحكم والاستدلال عند الطفل
( 1924 ) . وقد أوضح بياجيه في هذين الكتابين كيف يتطور تفكير الطفل خلال المراحل
العمرية المختلفة. لقد كرَّس بياجيه حياته كلها التي زادت عن الثمانين عامًا
لدراسة النمو العقلي عند الأطفال حتى أصبح هذا الاهتمام هو المميِّز له بين علماء
النفس المحدَثين بصفة عامة، وعلماء نفس النمو بصفة خاصة.وقد اهتمَّ بموضوعات أخرى
كثيرة مثل: الدوافع والإدراك ، والتصرفات، والقيم عند الأطفال . ولكن اهتمامه بها
كان لبيان ما بينها وبين الذكاء من روابط وعلاقات، أي إن اهتمامه بهذه الموضوعات
لَم يكن اهتمامًا لذاتها ، بِقَدْر ما كان مُوَجَّهًا لخدمة موضوعه الأساسي ، وهو
دراسة تطور تفكير الأطفال وإنشاء نظرية في المعرفة التكوينية.
وقد طوَّر نظرية التطور المعرفي عند الأطفال فيما يُعرَف الآن بعلم المعرفة الوراثية . وأنشأ في عام 1965 مركز نظرية المعرفة الوراثية في جنيف ، وترأسه حتى وفاته. يُعتبَر بياجيه رائد المدرسة البنائية في علم النفس . وأثَّرت نظريته للتطور المعرفي في كثير من المجالات: علم نفس النمو، والتعليم والأخلاق، والفلسفة ، وعلم المقدمات ، والذكاء الاصطناعي. اعتقد بياجيه أن الأطفال يمرُّون بأربع فترات للنمو العقلي : فَهُم يكتسبون في فترة تكوُّن الحواس معرفةً أساسية بالأشياء مِن خلال حواسهم وهي تستمر حتى سن الثانية . وخلال الفترة التحضيرية من حوالي الثانية إلى السابعة يُنمِّي الأطفال مهارات مثل اللغة والقدرة على الرسم. وفي فترة العمليات الملموسة من حوالي السابعة إلى الحادية عشرة يبدؤون التفكير منطقيًّا فيتعلمون _على سبيل المثال_كيف يُنظِّمون معرفتهم وكيف يُصنِّفون الأشياء وكيف يُؤدُّون مسائل التفكير. وأمَّا فترة العمليات التشكيلية فتستمر من حوالي الحادية عشرة إلى الخامسة عشرة،وفي ذلك الوقت يبدأ الأطفال التفكير واقعيًّا فيما يتعلق بالمستقبل، والتعامل مع المعاني المجرَّدة . وهذه المعاني المجردة أفكار تتعلق بالصفات والخصائص المتصوَّرة بصرف النظر عن الأشياء التي تُشير إليها . كان بياجيه أستاذًا لعلم النفس بجامعة جنيف من 1929م حتى وفاته . وزار أقطارًا كثيرة لشرح أفكاره، ولحضور المؤتمرات، وإلقاء المحاضرات. وظل يتنقل بين فرنسا وسويسرا لشغل مناصب متعددة . فقد عمل منذ عام 1920 في مخبر بينه سيمون في باريس ، حيث كُلِّفَ بتقنين اختبارات الاستدلال والبرهنة. وفي عام 1952 ، قسَّم وقته بين كلية العلوم في جنيف وجامعة السوربون في باريس ، حيث تولى كرسي علم نفس الطفل . وبعدها ترأس الاتحاد العالمي لعلم النفس، وصار مديرًا لمركز علم تكوين المعرفة. وقد ترك التعليم الجامعي عام 1973 ، إلا أنه ظل يتابع التأليف. اشتهر بياجيه بنظريته في تكون المعرفة ( الإبستيمولوجيا ) وتطورها . وقد رفض فيها كلاًّ من النظريتين الاختبارية والمثالية، وأحل مكانهما نظرية تقوم على فكرة الذات النشطة التي تُنظِّم الصور الآتية من الوسط الخارجي في نسقٍ تخطيطي، يساعد على تمثُّل الواقع ، وتكوين بُنى عقلية تتطور بصورة مستمرة ، بفعل العمليات التي يُجريها العقل في تعامله مع البيئة . أعطى بياجيه أهمية للأمور البيولوجية ، إذ رأى أن الدماغ ينمو بحسَب برنامج مسبق، ولذا ينبغي عدم دفع الطفل نحو تطور مستعجل. غير أنه لَم يُغمط التدريب والتفاعل الاجتماعي حقهما في التأثير في تطور الطفل . وعُرف بتفسيره الذكاء الذي عدَّه شكلاً من أشكال التكيُّف المتقدم الذي يتطور بوساطة عمليتَي الاستيعاب والتلاؤم اللتين يتم تجاوزهما باستمرار، لتحقيق توازن آني لا يلبث أن يختل ، فتعاود العمليتان دورهما وهكذا. اتَّبَعَ بياجيه في دراساته الطريقة العيادية التي تعتمد على مقابلة الأطفال والحوار معهم، وعلى ملاحظتهم بصورة طبيعية مباشرة ، بعيدًا عن طريقة الدوائر المقنَّنة التي تُخضع الأطفال لشروط دقيقة مُصْطَنَعَة تَحُول دون عفويتهم . لقد ترك بياجيه أثرًا كبيرًا في علم النفس عامة، وعلم النفس المعرفي وعلم نفس الطفل على وجه الخصوص . وتُعَدُّ أعماله مصدرًا غنيًّا للتربية، فقد انتقد طرائق التلقين السلبي في التعليم، والطرائق الحدسية، وشدَّد على طريقة التعليم الفعَّالة أو النشطة التي قال بها ، وتقوم على ضرورة الفعل الذي يمارسه الفرد في الأشياء ليكتشف خصائصها، وعلى العمليات العقلية التي يُضفي الفرد فيها خصائص على الأشياء ، لا تمتلكها الأشياء في ذاتها . وقد أثارت كتاباته ضجةً على النطاق العالمي، سواء للاتفاق معها، أو لنقضها والرد عليها، وأُعِيدت التجارب التي قام بها على الأطفال حول اكتسابهم مفاهيم متعددة، وعلاقة ذلك الاكتساب بالتدريب والمرحلة العمرية التي يمرون بها. أنكر بياجيه أن يكون عالِمَ نفس طفولة، كما يُعرَّف غالبًا، وفضَّل أن يُقدِّم نفسه بوصفه عالِم نفس تكويني ، لأنه وقف حياته العلمية ، بطولها ، للبحث عن كيفية تكوُّن المعرفة وتطورها .