وُلد الفيلسوف
الأيرلندي والأسقف الأنكليكاني جورج بيركلي ( 1685 _ 1753 ) في ديسارت كاسل في مقاطعة كيلكني
في أيرلندا . وفي سن الخامسة عشرة التحق بكلية
ترينتي في دَبلِن . وفي سن العشرين أسَّس ناديًا لدراسة
"الفلسفة الجديدة"، ويقصد بها جون لوك .
ادَّعى
بيركلي أنه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق ، وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم
المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في " عقل اللَّه " . وهكذا فإن العقل
البشري لا يعدو أن يكون بيانًا للرُّوح. قِلَّة من فلاسفة اليوم يمتلكون هذه
الرؤية المتطرفة، لكنَّ فكرة أن العقل الإنساني هو جوهر، وهو أكثر عُلُوًّا
وَرُقِيًّا من مجرَّد وظائف دماغية، لا تزال مقبولة بشكل واسع . آراء بيركلي
هُوجمت ، وفي نظر الكثيرين نُسِفَت تمامًا .
في
عام 1709 ، نشر بيركلي أول أعماله الرئيسية " مقال نحو نظرية جديدة للإبصار
" . وفيه ناقشَ حدودَ الإبصار البشري ، وقال إن الأشياء المرئية ليست أشياء
مادية ، بل هي مُجرَّد ضوء ولون . وقد غَطَّت هذه الفكرة على عمله الفلسفي الرئيسي
" دراسة تتعلق بمبادئ المعرفة البشرية " ( 1710 ) التي اسْتُقْبِلت بشكل
سَيِّئ، فأعادَ كتابتها على شكل حوار، ونشرها بعنوان"ثلاث حوارات بين هيلاس
وفيلونوس" ( 1713).
في هذا الكتاب، آراء بيركلي تَمَّ عرضها على
لسان فيلونوس ( باليونانية : مُحِب العقل ) ، بينما هيلاس ( باليونانية : المادة )
جسَّدت مُعارِضي بيركلي ، وبالذات جون
لوك .
جادلَ بيركلي ضد مبدأ إسحق نيوتن الفراغ المطلق. وقد
كانت حُججه مُمهِّدة لوجهات نظر ماخ وآينشتاين. وفي عام 1732 ، نشرَ بيركلي "
ألْسِيفرون " ، دفاع عن العقائد المسيحية ضِد المفكرين الأحرار. وفي عام 1734
، نشرَ " الْمُحَلِّل"، وهو نقد وضعي لأسس الحسبان
المتناهي، الذي كان مُؤثِّرًا جِدًّا في تطوُّر الرياضيات والتحليل الهندسي
الميكانيكي .
في عام 1724 عُيِّنَ بيركلي رئيسًا
لكاتدرائية دري . وفي 1728 أبحر_ بناءً على وعد من الحكومة بإمداده بمعونة مالية _
إلى برمودا لِيُنشِئ فيها كلية "لتقويم عادات الإنجليز في مزارعنا في الغرب (
المستعمرات ) ، ونشر الإنجيل بين الأمريكيين الهمجيين " . وبعد وصوله انتظر
ورود المعونة المالية الموعودة، وقَدْرها عشرون ألف جنيه ، ولكن لَم يصل منها شيء.
وهناك ألَّفَ كتاب "الفيلسوف الصغير" ليضع حَدًّا لكل الشكوك الدينية .
وبعد ثلاث سنوات من توقعات لا فائدة منها ،
عاد إلى إنجلترا . وفي عام 1734 عُيِّنَ أسقفًا في كلوين . وقد جعلته إحدى النساء
الثريات مُنَفِّذًا رئيسيًّا لوصيتها ، وتركت له نصف ثروتها .
وفي عام 1744 ، نشرَ رسالة غريبة " مزايا
ماء القطران" الذي قدَّمه إليه هؤلاء" الهمجيون" الذين سبق ذِكرهم
، والذي أوصى به الآن علاجًا للجدري .
لَم يصمد أحد أمام بيركلي في إثبات عدم
واقعية الواقع ، وفي جهوده لاستعادة الإيمان الديني وتطهير البلاد من مادية توماس
هوبز ، التي كانت تُلوِّث إنجلترا وتُفسِدها .
قَلَبَ بيركلي الفلسفة رأسًا على عَقِب .
وكانت مُغامرته الفلسفية محفوفة بالمخاطر . ورُبَّما شَكَّ بيركلي في نفْسه
وارتاعَ حِين وجد هيوم وكانت ، يقتبسان من مبادئه الدينية التَّقِيَّة الورعة
نقدًا للعقل ، لَم يترك أيَّة تعاليم أساسية في المسيحية إلا زعزع أركانها .
كان لبيركلي أثر واضح في بريطانيا وألمانيا
في القرن الثامن عشر ، وكان الأثر أقل في فرنسا ، ولكنه تعاظمَ في أفكار أتباع
" كانت " في القرن التاسع عشر . وحتى في يومنا هذا ، لَم تُصْدِر
الفلسفة الأوروبية بَعْد قرارًا حاسمًا حول وجود العالَم الخارجي .
لقد كانت هذه الفترة في حقيقتها أزهى فترات
الفلسفة الإنجليزية . وإن الناقوس الذي كان فرانسيس
بيكون قد دَقَّه
لدعوة المفكرين للعمل بعضهم مع بعض، كان قد سُمِع بَعد أن خمد أوار الحرب الأهلية . وكان هوبز
جسرًا فوق هذا الفراغ ، وكانت إسهامات نيوتُن العلمية هي الرافعة التي حَرَّكَ
عليها اللاهوت . وكان لوك القِمَّة التي تحدَّرت منها مسائل الفلسفة الحديثة في
رؤية صافية واضحة . ومِن هذا الرُّباعي الإنجليزي الذي سُرعان ما أغراه هيوم
الحكيم الغريب بالإثم ، دخل إلى فرنسا وألمانيا تأثير قوي .
لَم يكن المفكرون الفرنسيون في تلك الفترة
على نفس القَدْر من العُمق والأصالة مثل الإنجليز، ولكنهم أكثر لمعانًا وإشراقًا .
والرقابةُ الأشد صرامة أرغمتهم على إفراغ هَمِّهم في الشكل، ووضع حِكمتهم في
الرِّقة والظُّرْف .