وُلد الفيلسوف المجري الماركسي
جورج لوكاش (1885_ 1971) في بودابست ( عاصمة المجر ) ، لعائلة يهودية ثرية ألمانية
الأصل . بدأ فيلسوفًا مثاليًّا ، وانتهى فيلسوفًا ماركسيًّا مُجَدِّدًا وناقدًا.
انتسب إلى الحزب الشيوعي المجري عام 1918 وتولى فيه أمانة الشؤون الثقافية
لجمهورية المجالس المجرية الفتية . يعتبره معظم الدارسين مُؤسِّس الماركسية
الغربية في مقابل فلسفة الاتحاد
السوفييتي . أسهمَ بِعِدَّة أفكار ، مِنها " التَّشَيُّؤ " و "
الوعي الطبقي " . وكان نقده الأدبي مُؤثِّرًا في مدرسة
الواقعية الأدبية ، وفي الرواية بشكل عام باعتبارها نوعًا أدبيًّا . خدم لفترة
وجيزة كوزير للثقافة في المجر بعد الثورة المجرية ( 1956 ) التي قامت على الرئيس ماتياش راكوشي . بينما
كان لوكاش يدرس في قسم اللغات بالجامعة في بودابست، انضم إلى حركات اشتراكية
متعددة،وتواصلَ مع المعارض إرفن
تسابو الذي ينتمي
إلى أحد مدارس الفكر اللاسُلطوي وأطلعَ تسابو الطالبَ لوكاش على
كتابات الفيلسوف الفرنسي الثوري جورج
سيرويل الذي كانت
آراؤه ونظرياته في تلك الفترة في أوجها ، وكانت أفكارًا حداثية ، وضد الوضعية .
قضى لوكاش وقتًا طويلاً في
ألمانيا ، وتعرَّفَ على العديد مِن مُثقفيها وكُتَّابها . ذهب إلى برلين بغرض
الدراسة في عام 1906 . وذهب مرة أخرى في عامَي 1909و1910 ، وتعرَّفَ هناك على
عالِم الاجتماع الألماني جورج سيميل . وفي مدينة هايلدبرغ في عام 1913 ،
تعرَّفَ على عالِم الاجتماع المعروف ماكس
فيبر وأصبحا صديقين.ثم
تعرَّف على الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ ، ثم
على الشاعر ستيفان
جورج.كان لوكاش في ذلك الوقت منتميًا إلى النظام المثالي المأخوذ عن مثالية الفلاسفة
الألمان . وهذا النظام كان متأثرًا بفلسفة كانت، والتي
هيمنت على جامعات ألمانيا لوقت طويل. وقد ألَّف لوكاش كتابين في ذلك الوقت هُما :
" الروح والجسد " ( 1910) و" نظرية الرواية " ( 1916 ) . عاد
لوكاش إلى مدينته بودابست في عام 1915 ، وكان يُدير صالونًا ثقافيًّا أو حلقة
ثقافية تُدعَى حلقة الأحد أو حلقة لوكاش. يتحدث فيها بالمقام الأول عن الموضوعات
الثقافية والنقدية في أعمال الروائي الروسي دوستويفسكي ، الذي كان مُستحوذًا على
اهتمامات لوكاش في فترة إقامته في هايلدبرغ في ألمانيا .
ويُعَدُّ كتابه " التاريخ
والوعي الطبقي " ( 1923 ) وثيقةً لفلسفة التاريخ الماركسي . جابه لوكاش
الوضعية الْمُسْتَحْدَثَة بعنف وشِدَّة ، ويُلاحَظ في تفكيره تجريبية أساسية تظهر
واضحةً في غمار الدراسة النظرية ، ولا سِيَّما في كتابيه : عِلم الجمال ( 1972_
1976 ) ، والأنطولوجيا " عِلم الوجود "( 1972). حيث تلتحم معطيات الحياة
العامة مع الواقع لتقوم بدور منهجي حاسم. ويُناقش لوكاش في كتابه " عِلم
الجمال " مكانة المبدأ الجمالي في إطار فعاليات الإنسان العقلية، ويرى أن هذه
الفعاليات ليست كياناتٍ نفسية ، بل هي لغة مختلفة يُنظِّم الإنسان بموجبها أفعالَ
العالم الخارجي ، وردود أفعاله التي يتعرَّض لها دومًا للدفاع عن ذاته وكيانه
الداخلي .
ويُؤكِّد لوكاش أن الفن في معناه
الأنطولوجي ( الوجودي )، هو إعادة تكوين عملية يستوعب الإنسان في خضمها حياته
الذاتية في إطار المجتمع والطبيعة، بما في ذلك من مشكلات ومبادئ، المحرِّضة منها
والعائقة، لذا فالفن عنده لا ينفصل أنطولوجيًّا عن نشوئه، كما يُؤكِّد أن الفن ليس
له منشأ واحد، وأن جوهره إيجاد التضاد بين ما يتحلى بقيمة، وبين ما لا يتحلى بقيمة
، وأن التساؤل عن المفيد وغير المفيد، عن الملائم وغير الملائم ، يُولِّد مفهوم
القيمة .
يُعَدُّ لوكاش واحدًا من أبرز
مُنظِّري النقد الماركسي ومُمارسيه ومُطوِّريه، ويتَّضح ذلك من الكيفية التي وظَّف
فيها ما يُعرَف بالواقعية الاشتراكية في دراساته، خاصة ما كتبه حول الرواية في
كتابه " دراسات في الواقعية الأوروبية ". ويرى لوكاش أن الواقعية تسعى
إلى تناول شمولي للإنسان يأخذ في الحسبان الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية من دون أن
يتجاهل البُعد الداخلي الذاتي . ويرفض لوكاش رفضًا تامًّا استغراق الأديب في
مُعاناته وتجربته الذاتية مهما كانت صادقة أو أصيلة، خشية ازدياد تفاقم التمزق في
التناسق الفني . ويقول عن الرواية إنها " ملحمة البرجوازية في العصر الحديث
"، وكان قَوْله مُحصِّلة لدراسة مُعمَّقة تقصَّت علاقة الفن بالسياسة
والتركيب الاجتماعي الاقتصادي الثقافي .
ويُعتبَر كتابه " تحطيم العقل " ( 1952 ) ذِروة مؤلفات لوكاش، وقد صدر في جزأين كبيرين، كان الأول حول بدايات اللاعقلانية الحديثة من شيلنغ إلى نيتشه، والثاني حول اللاعقلانية الحديثة من دلتاي إلى توينبي . وتتراكب موضوعات الكتاب ضمن خط السيرورة التاريخية من الرِّدة الإقطاعية أو نصف الإقطاعية والرومانسية ضد الثورة الفرنسية إلى الفاشية ، من النضال ضد الجدل المثالي وفكرة التقدم البرجوازية إلى النضال ضد الماركسية والثورة البروليتارية . لا يمكن إنكار ما قدَّمه لوكاش للفكر السياسي من إضافات وعناصر جديدة. فهو يُعَدُّ بالنسبة لخصومه أو مُؤيِّديه أهم مفكر ماركسي منذ ماركس، بل يعتبره البعض أهم فيلسوف في النصف الأول من القرن العشرين . لقد كان له تأثير حاسم على كارل مانهايم وكارل كورتس ومارتن هايدغر على وجه الخصوص ، ويُعتبَر مِن مُؤسِّسي تيار البنيوية التوليدية .