وُلد الأديب الفرنسي
جان راسين(1639 _ 1699 ) في لا فيرتي ميلون ، وهي مدينة فرنسية صغيرة . ونشأ في
دير بور رويال . وفي العشرين من عمره انتقل إلى باريس ، واستقر فيها حتى وفاته .
تُوُفِّيت والدته وهو في الثالثة من عُمره ،
ووالده وهو في الخامسة، وتعهدته جدته الأرملة التي اصطحبته معها للعيش في كنف عمته
الراهبة في دير بور رويال، الذي اشتهر بأنه معقل الْجَنسينية ( نِسبة إلى المطـران
البلجيكي جانسينيوس الـذي استوحى تعليماتها من أفكار القديس أوغسطين). وهي طائفة
مسيحية متشددة دينيًّا متشائمة وسلفية، لَم تتأقلم مع تطورات العصر، تَمَّت
ملاحقتها مِن قِبَل الحكم الملكي المطْلق في مرحلة لويس الثالث عشر ولويس الرابع
عشر .
تأثرت شخصية راسين بهذا الوسط، وخاصة في ما
يتعلق بمفهومَي الخلاص والنعمة ، واكتسب هناك معارف في اللغات اليونانية
واللاتينية والآداب. ويبدو أن موقفه من جماعة بور رويال كان مُلتبسًا نوعًا ما،
فقد كتب في نهاية حياته دراسة عنها، وأوصى بدفنه في مقبرة الدير مع أنه كان قد قطع
علاقته نهائيًّا به منذ عام 1666 . وكان ارتباطه بالقصر الملكي والملك لويس الرابع
عشر وثيقًا في هذه المرحلة . وَسُمِّيَ منذ عام 1677 المؤرِّخ الرسمي للملك .
تبقى تفاصيل شخصية راسين نادرة، إذ ليس هناك
من تفسير واضح لعلاقاته المضطربة مع مختلف الجهات التي انتمى إليها أو تعامل معها
. وهناك دراسات عِدَّة تُحاول سَبْر هذه الشخصية في دراسة الشخصيات الذكورية
والأنثوية في مسرحه .
بدأ راسين كتابة الأدب والشِّعر منذ عام
1658 ، ثم بدأ كتابة المسرح في فرقة موليير عام 1664 ، وكتب في عامين مسرحيتيه
" الطبيبة " التي قدَّمتها فرقة موليير، ثُمَّ مسرحية " الإسكندر الكبير
" ، التي قدَّمها إلى الفرقة المنافسة ، مِمَّا أدى إلى قطع علاقته نهائيًّا
مع موليير .
بدأ نجاحه في المجال المسرحي منذ ذلك
التاريخ ، فقد كتب في عشرة أعوام إحدى عشرة مسرحية وملهاة واحدة هي "
المتقاضون " ، ثم توقف عن كتابة المسرح نهائيًّا بعد مسرحية "
فيدرا" عام 1677 . ولكن نزولاً عند رغبة مدام دي مانتونان المقرَّبة من
البلاط والكنيسة ، ومديرة مدرسة البنات الأرستقراطيات ، كتب راسين مسرحيتين لهما
طابع ديني تربوي هُما " إستر " عام 1689 ، و" أتالي " عام
1691 .
يُعتبَر راسـين مؤسس المأساة الجديدة التي
تقوم على تقليد القدماء ، وارتبط ارتباطًا مباشرًا بالتيار الاتباعي الجديد الذي
سادَ في فرنسا خلال القرن السابع عشر. ولهذا ابتعد عن طرح المشاعر الرقيقة
والْمُثُل البطولية المرتبطة بتقاليد الفروسية والباروك،ليدخل أكثر في تحليل العنف
والهواجس التي تعصف بالروح البشرية .
تعتمد مآسي راسين منطقَ البساطة والتجانس
اللذين يطبعان المذهب الاتباعي عامة ، فبنى مسرحياته وَفْق مبدأ الوَحدات الثلاث (
المكان والزمان والفِعل الدرامي)، ويمكن أن تُصنَّف ضمن المسرح الفقير من حيث
تسلسل الأحداث وغياب التعقيد ، لكنها تحمل غِنًى كبيرًا في تحليل السلوك البشري ،
وتُشير إلى قدرة كبيرة على تحليل النفس البشرية وأهوائها ، وحَوَّلَ الصراع
الموجود في المسرح اليوناني مِن كَوْنه صراعًا خارجيًّا، إلى صراع داخلي يتم على
مستوى العواطف والرغبات . وهو عندما يرسم المصير المأساوي للبطل يبتعد تمامًا عن
المنطق القدري المعهود في المسرح اليوناني والروماني، حتى عندما يقول إنه يَستوحي
مسرحياته من هذا الأدب، ليُحمِّل مأساته بُعْدًا مبنيًّا على فكرة المسيحية
الخالصة ، وعلى الشعور بالذنب أمام أي خرق للتعاليم الصارمة السائدة في تلك
المرحلة .
كتب راسين عِدَّة مسرحيات مِن التاريخ
الروماني ، مِثل : " بريتانيكوس " ( 1669) ، وكذلك " بيرينيس
" ( 1670 ) التي حقَّقت نجاحًا كبيرًا ، وخاصة شِعر الرثاء فيها . وأتبعها
بمسرحية "بايزيد " ( 1672 ) . وقد انتُخِب بعد ذلك عُضْوًا في الأكاديمية
الفرنسية . وتابعَ نجاحه في المسرح عندما قدَّم المأساتين " ميتريدات "
( 1673 )، و"إيفيجيني " ( 1674 ) التي يعود فيها إلى موضوعات المسرح
اليوناني ، وخاصة أعمال أوربيديس .
لَم تنقطع شهرة راسين على مدى الزمن ،
ومازال مسرحه يُقدَّم باستمرار في فرنسا، وبمنظور جديد كل مرة، ويتنافس كبار
الممثلين والممثلات على أداء أدوار مسرحياته ، وإلقاء المقاطع الشعرية التي
تُميِّز هذه النصوص لغويًّا ، وتَمنح الممثل فرصة كبيرة لإثبات قدراته .