سيرة ذاتية

إبراهيم أبو عواد القيسي، مفكر، وشاعر،وكاتب صحفي من الأردن. ولد في عَمَّان 1982، لعائلة من شيوخ بني قيس/قَيس عَيلان(أكبر قبيلة عربية في العالم).حاصل على البكالوريوس في برمجة الحاسوب من جامعة الزيتونة الأردنية (2004).له اهتمامات واسعة في دراسات الكتب الدينية (القرآن الكريم، التوراة، الإنجيل )، والفكر الإسلامي، والفلسفة،وعلم الاجتماع،والسياسة ،والنقد الأدبي،والشعر،والرواية، والعلوم الطبيعية . متفرغ للبحث والتأليف.يكتب في أبرز الصحف والمجلات في الوطن العربي وأوروبا.له آلاف المقالات والدراسات، وعشرات الكتب المطبوعة،من أبرزها: [1]حقيقة القرآن [2] أركان الإسلام [3] أركان الإيمان [4] النبي محمد[5]دراسات منهجية في القرآن والسنة[6] العلاقات المالية والقضائية والسياسية والاقتصادية في القرآن [7] دراسات منهجية في القرآن والتوراة والإنجيل [8] الدعوة الإسلامية [9] منهج الكافرين في القرآن [10] العلوم والفنون في القرآن [11] العمل في القرآن [12] العلاقات الأخلاقية في القرآن [13] القصص والتاريخ في القرآن [14]الإنسان والأسرة والمجتمع في القرآن [15] بحوث في الفكر الإسلامي [16] التناقض في التوراة والإنجيل [17] صورة اليهود في القرآن والسنة والإنجيل [18] نقض عقائد ابن تيمية المخالفة للقرآن والسنة [19] عقائد العرب في الجاهلية[20]فلسفة المعلقات العشر[21] النظام الاجتماعي في القصيدة(المأزق الاجتماعي للثقافة. كلام في فلسفة الشعر) [22] صرخة الأزمنة ( سِفر الاعتراف ) [23] حياة الأدباء والفلاسفة العالميين [24]مشكلات الحضارة الأمريكية [25]الأعمال الشعرية الكاملة(مجلد واحد)[26] سيناميس (الساكنة في عيوني)[27] خواطر في زمن السراب [28] أشباح الميناء المهجور (رواية)[29]جبل النظيف ( رواية) [ يُمنع ترجمة أيَّة مادة في هذه المدونة أو نقلها بأيَّة وسيلة كانت إلا بعد الحصول على موافقة خطية مُسبقة من المؤلف إبراهيم أبو عواد، تحت طائلة المسؤولية القانونية، ووفق قوانين حماية الملكية الفكرية ] .

31‏/08‏/2021

فرانس إيميل سيلانبا وحتمية القدر

 

فرانس إيميل سيلانبا وحتمية القدر

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

وُلد الكاتب الفنلندي فرانس إيميل سيلانبا ( 1888_ 1964) في بلدة هَمينكيرو ، بالقُرب من مدينة تامبِرِه ، جنوبي فنلندا ، وتُوُفِّيَ في هِلسنكي . كان والداه مُزَارِعَيْن . وعلى الرغم من الفقر المدقع الذي كانت تعيش فيه عائلته ، إلا أنه عاش طفولة سعيدة، كما تَمَكَّنت عائلته من إرساله إلى المدرسة . وفي عام 1908 ، بدأ يدرس العلوم الطبيعية في جامعة هِلسنكي ، وهذا الأمر أثَّرَ بشكل واضح على أفكاره وأحلامه وعوالم الكتابة في ذِهنه ، كما أنَّه غيَّر نظرته إلى الحياة والكَون،وجعله يَتعاطف مع الفقراء والمسحوقين والمنبوذين في المجتمع. وقد ترك الدراسة في عام 1913قبل تخرجه بسبب مشكلاته الأسرية، وتكالب الأمراض عَلَيه، وكثرة دُيونه ، وعدم استطاعته التَّكيف مع حياة المدينة . لقد كانت المدينةُ وحشًا يُطارده ، وكابوسًا يُسيطر عَلَيه ، ويَقضي على أحلامه ، ويُدمِّر مشاعره ، فقد رأى فيها وحشية النظام الاستهلاكي المادي ، حيث تَغيب الأحاسيس الدافئة بين الناس، وتبرز المصالح الشخصية، والحياة العملية الخالية من العواطف. عاد سيلانبا إلى الريف الذي نشأ فيه ، بعد اكتسابه العِلم والمعرفة ، واتِّساع آفاقه ، واطِّلاعه على مؤلفات كبار الأدباء الإسكندنافيين والعالميين الذين أثَّروا فِيه بشكل واضح ، وغيَّروا كثيرًا من أفكاره ، وساهموا في إعادة تشكيل نظام حياته . ثم تزوج ، وعمل لفترة قصيرة في دار نشر قريبة من العاصمة هِلسنكي . ساهمت حياة الريف في استعادة صحته وتوازنه النفسي ، وبدأ الكتابة عن هذه البيئة التي أحبَّها وعرفها جَيِّدًا ، وخالطَ أهلها ، وأدركَ أحزانهم وأفراحهم ، واطَّلع على أحلامهم وخَيباتهم.وفي عام 1916 صدرت له أول رواية بعنوان " الحياة والشمس ". وهي قصة حب عادية في ليالي الصيف ضمن البيئة الفنلندية ، كما أنها تبحث عن دَور الإنسان في هذا الوجود ، وعلاقته بعناصر الطبيعة ، ووظيفته المركزية في الكَون . شَكَّلت الحرب الأهلية الفنلندية ( 1918) صدمةً هائلة بالنسبة للكاتب، وحَطَّمت معنوياته ، وهشَّمت أحاسيسه ، وأفقدته الثقة بنفْسه ، وبَدَّلت نظرته إلى عناصر الوجود ، فصارَ يَعتبر الحياة الجائرة نَوعًا مِن العبث والوهم والأحلام الضائعة . وهذه الأفكار صارت المبادئ الأساسية في رواياته اللاحقة . ففي رواية " الإرث المتواضع " ( 1919) ، يموت البطل في الحرب بين الأطراف المتناحرة، معَ أنَّه واقف على الحياد، ولَم يشارك في الحرب،وليس له أية علاقة بالأطراف المتناحرة. وهذه الفلسفة تَنبع من النظرة القَدَرية للكاتب ، حيث الإنسان مَحكوم بحتمية القَدَر ، ولا يَملِك أن يُغيِّر شَيئًا في حياته ، لأنه لا يَتحكم بمساره ومصيره . فالأمرُ مَفروضٌ على الإنسان الذي ليس له ناقة ولا جَمل في حياته. وهذه النظرة التي تُكرِّس عَجْزَ الإنسان،وعدم قُدرته على رسم حياته، إنما هي نزعة تشاؤمية تُجرِّد الإنسان مِن قُدرته على التغيير. وقد جاءت هذه النَّزعةُ كردة فِعل نابعة من صدمة الحرب الأهلية بين أبناء البلد الواحد. وفي زمن الصراعات والحروب، يَفقد الكثير من الناس قيمة اليقين، وتُصبح المسلَّمات في موضع الشك والتساؤل والتشاؤم ، نتيجة القلق ، وكثرة القتل، وانهيار الحياة الإنسانية ، وانتشار الخراب ، وسقوط مُنجزات الحضارة . نشر سيلانبا الكثير من الأعمال الأدبية ، من أبرزها رواية " النوم في الشباب " ( 1931) التي تتحدث عن خادمة يتيمة مُفعمة بالحياة والحيوية ، إلا أن حياتها تنتهي بشكل مأساوي بعد إصابتها بمرض السُّل. أمَّا في روايته" طريق رَجل " ( 1932)، فقد رَكَّزَ على مراحل تطور شاب فلاح ، وأظهرَ أهمية العلاقة العُضوية بين الإنسان والطبيعة ، وبين الفلاح وأرضه . وفي عام 1934، قَدَّمَ الكاتبُ أفضلَ مؤلفاته على الإطلاق، وهي رواية "ناس ليالي الصيف"،المكتوبة بلغة وصفية وغنائية شديدة الدِّقة . وفي هذه الرواية ، تتجلى النظرة الحتمية إلى الإنسان والكون ، حيث القَدر المحتوم، والأحاسيس الدافئة ، والحياة المفعمة بالعواطف ، والشخصيات البسيطة والمعقَّدة ، وتفاصيل الحياة الصغيرة ، والقضايا الوجودية الكُبرى . وعُموماً ، يُصوِّر الكاتب في أعماله الأدبية سُكان الريف الذين يعيشون مُتَّحدين مع الأرض، رافضين التَّخلي عنها ، ويكشف عن واقعهم المأساوي ، ويُبرِز حياة البؤس التي يَعيشونها . ودائمًا، شخصياته تأتي من الطبقات المتدنية في المجتمع ، حيث تتكرَّس المعاناة الحقيقية في سبيل تَوفير لُقمة العَيش ، وينتشر الظلم والاضطهاد والحقد الاجتماعي والتفاوت الطبقي. وتُواجه الشخصيات مصيرها المحتوم بكثير من السلبية أو اللامُبالاة الهادئة، بَحثًا عن الأمل الكاذب، أو الراحة النفسية الوهمية ، أو لحظات السعادة العابرة. وفي عام 1939 ، حصل سيلانبا على جائزة نوبل للآداب " لفهمه العميق لحياة الفلاحين في بلاده ، وتصوير مشاعرهم وأحلامهم ، وطريقتهم في الحياة ، وعلاقتهم العُضوية معَ الطبيعة " ، ليكون بذلك أول كاتب فنلندي يحصل على هذه الجائزة العالمية. وفي عام 1941 ، طَلَّقَ سيلانبا زوجته ، وعانى من مشكلات صحية ناتجة عن إدمان الكحول ، لكنه عاد في عام 1943 إلى الحياة العامة ، وصارَ يُلقي أحاديث في الإذاعة ، أحدثت صدًى هائلاً بين المستمعين ، ولاقت شعبية كبيرة. مِن أبرز رواياته:الحياة والشمس ( 1916).أحب بلدي ( 1919). اعتراف (1928).النوم في الشباب(1931).طريق رَجل( 1932). ناس ليالي الصيف ( 1934).

30‏/08‏/2021

فرانز كافكا ورحلة الكوابيس

 

فرانز كافكا ورحلة الكوابيس

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     وُلد الأديب التشيكي فرانز كافكا(1883_ 1924)في براغ، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية،لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية. لَم يتوقع أن يصبح كاتبًا عالميًّا ، ولَم يتخيَّل في يوم من الأيام أن تصبح مؤلفاته من عيون الأدب العالمي . فالقليلُ من كتاباته نُشرت أثناء حياته ، ولَم تستقطب انتباه القُرَّاء . والكتاباتُ القليلة تعني أنه لَم يكن حريصًا على نشر أعماله ، ونَيل الشُّهرة والمجد الأدبي . كما أنه طَلب من صديقه المقرَّب ماكس برود أن يُتلِف كل كتاباته بعد موته. وهذا يعني أنه غير مقتنع بها ، ويرى أنها لا تستحق النشر ، ولا فائدة من اطلاع القُرَّاء عليها . وبالطبع ، لَم يستجب صديقه لهذا الطلب ، ونشر أعماله بعد موته ، وصنعَ مجدَ كافكا الأدبيَّ إلى الأبد .

     ونظرةُ كافكا إلى أعماله الأدبية تحمل فلسفةَ جَلْد الذات ومُعاقبتها ، لذلك لَم يُرِد أن ترى أفكاره النور . فقد كانت الكتابةُ بالنسبة إليه عملاً شخصيًّا ، وحوارًا ذاتيًّا ، وتفريغًا للمشاعر على الورق . كتبَ لنفْسه ، كتبَ كإنسان مجروح ومكسور ، ولَم يَكتب كصاحب مدرسة أدبية ، أو زعيم تيار فكري . وهذا الانكسار المسيطر على حياته الشخصية وأعماله الأدبية ، ينبع من غربته الروحية واغترابه العاطفي ، وعُزلته الوجدانية ، فهو يشعر على الدوام أنه خارج الزمان والمكان ، ولا ينتمي إلى العناصر المحيطة بِه . فهو تشيكي المولد ، يهودي الديانة ، يكتب ويتكلم بالألمانية . وهذا الأمر يحمل في طيَّاته بذور العزلة والغربة، فالتشيكُ يعتبرونه ألمانيًّا ، والألمانُ يَعتبرونه يهوديًّا . ومعَ أنه تشيكي المولد لا يكتب باللغة التشيكية ، ومعَ أنه يهودي الديانة لا يَكتب باللغة العِبرية . وهذه الغربةُ المتفاقمة جَعلت منه شخصًا خجولاً ومُعَذَّبًا ، وأدخلته في صِدام معَ والدَيه ، فصارت علاقاته الاجتماعية متوترة تمتاز بالقلق والخوف ، ولَم تكن أزماته الاجتماعية إلا انعكاسًا لأزماته الروحية . درس كافكا الكيمياء والحقوق والأدب في الجامعة الألمانية في براغ عام 1901 . وحصل على الدكتوراة في الحقوق عام 1906.لكنه عمل موظفًا صغيرًا في مؤسسة للتأمينات العمالية عام 1908، وعانى من التناقض الصارخ بين مهنته التي تُشكِّل مصدر رِزْقه ، وبين قضاياه الفكرية وشؤونه الأدبية .

     وهذه الأزمة تُضاف إلى أزماته المتكاثرة ، التي انتقلت إلى إنتاجه الأدبي . فالكتابةُ الأدبية عِند كافكا هي هروب من الذات والواقع ، وتحويل الأحلام إلى كوابيس ، وإظهار للجانب المأساوي في الحياة ، وتسليط الضوء على المعاناة والألم والحزن، وإبراز المنحى السَّوداوي في داخل الشخصيات وخارجها. لذلك استحق كافكا لقب "رائد الكتابة الكابوسية " .

     وهذا اللقبُ يتَّضح معناه إذا عَلِمْنا أن روايات كافكا تنتهي دائمًا بموت البطل معَ اختلاف أسلوب الموت. فبطلُ رواية "المسخ " ( 1915) يموت ، وبطل رواية " المحاكمة " (1925) يُعدَم ، وبطل رواية " القلعة " ( 1926) يُقتَل .

     انهارت حياة كافكا،وانكسرَ عالَمه الواقعي، فحاول إحياء نفْسه من جديد في أعماله الأدبية ، وسعى إلى بناء عالَمه الخاص على الورق. هذا العالَم الافتراضي المحكوم بقانون الأحزان والآلام ، والذي يَظهر في الألفاظ الكئيبة والمعاني الصادمة .

     لَخَّصَ كافكا فلسفةَ إنتاجه الأدبي بالكامل في بداية رواية " المسخ " ، حيث يقول عن أحد الشخصيات : (( استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفْسه قد تحوَّلَ في فِراشِه إلى حشرة هائلة الحجم )). هذا هو السطرُ الأول في الرواية ، ويُبرِز نظرة كافكا إلى أنساق الحياة ، وتفاصيل المشاعر الإنسانية ، وفلسفة العلاقات الاجتماعية. فالإنسانُ_ في نظر كافكا _ هو شخص مسحوق منبوذ لا قيمة له ، تَطحنه قسوة الحياة المادية ، وكُلُّ الذين يُحيطون بِه لا تربطهم بِه أية علاقة، إلا علاقة المنفعة والمصلحة ، في ظل الغياب التام للمشاعر الإنسانية.

     وهذه النظرة السَّوداوية للإنسان والمجتمع والعالَم ، متجذرة في نفسية كافكا الذي عانى من طفولة تعيسة رغم ثراء أبيه. فأبوه كان شخصًا مُستبدًّا سحق شخصية ابنه، ولَم يستطع الابنُ أن يُفلِت من كابوس أبيه ، فعاشَ الابنُ حائرًا بين مشاعر الاحترام التي يَجب أن يحملها تجاه أبيه ، وبين مشاعر الكراهية والحقد بسبب سيطرة أبيه المطْلقة وشخصيته الطاغية .

     شعر كافكا بأن أباه رَجل غريب لا يَمُتُّ له بِصِلة، ولَم يشعر بالدفء والحنان في بيته، وأحس بالعزلة والاغتراب بين أفراد عائلته، فسعى جاهدًا إلى بناء علاقات عاطفية مع النساء ، لعله يجد تعويضًا عن حِرمانه الروحي ، وانكساره الجسدي، وخَيبات الأمل الكثيرة في حياته .

     بَحَثَ عن الحب والحنان خارج البَيت ، لأنه لَم يجدهما داخل البيت . ولكنَّ هذه العلاقات العاطفية باءت بالفشل ، ولَم يستطع كافكا أن يُتوِّج أيةَ علاقة بالزواج . وهذه القضيةُ تُشير بوضوح إلى عدم قدرته على إتمام الأمور ، ونقطةُ الضعف هذه لَم تُؤثِّر على مشاعره الإنسانية وعلاقاته الاجتماعية فَحَسْب ، بل أيضًا أثَّرت على إنتاجه الأدبي . فأغلبُ أعماله الأدبية غير مُكتمِلة ، وهذا يعني أنه عاجزٌ عن إيجاد نهايات منطقية لقصصه ورواياته. لقد كانت أعماله الأدبية _ كتفاصيل حياته _ أسئلة بلا إجابات ، ومساحات مفتوحة على كل الاحتمالات والكوابيس والكوارث . لَم يسيطر على مسار الأحداث على الورق ، ولَم يسيطر على تفاصيل حياته في الواقع . وفي هذا إشارة واضحة إلى التشويش الرهيب في ذهنه ، والقلق الوجودي الذي يسيطر على أعصابه ، والخوف الكامن الذي يَشُل قدرته على التفكير والتخطيط للأمور .

     كان خائفًا من كل شيء. خافَ من الزواج ( الارتباط )، فانهارت علاقاته النسائية ، وخافَ من تقديم نفْسه بين أفراد عائلته ، فصارَ ظلاًّ باهتًا لشخصية أبيه القوية ، وخافَ مِن أكل اللحوم ، فصارَ نباتيًّا ، وخافَ من الأمراض ، فأصابه السُّل الذي دمَّر حياته ، وأنهاها في 3 حزيران / يونيو 1924. وكان في الحادية والأربعين من العُمر .

     استمرت أزمات كافكا بعد مَوته، فقد تعرَّضت كتاباته للحرق على يد هتلر ، وتَمَّ اعتباره يهوديًّا خائنًا ، ومثالاً للعبث والتشاؤم والضياع والسَّوداوية ، لكنَّ أحدًا لَم يَلُمْ هتلر على فَعلته ، لأن كافكا شخصيًّا كان قد أحرقَ أغلب كتاباته .

     ومِن السخرية أن نقول : إن هتلر قام بتحقيق وصية كافكا التي لَم يُحقِّقها صديقه المخلص ماكس برود ، وهي حرق كتاباته ! .

29‏/08‏/2021

فرانز فانون واستخدام العنف الثوري

 

فرانز فانون واستخدام العنف الثوري

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

     وُلد الفيلسوف والطبيب النفسي فرانز عمر فانون ( 1925_ 1961) في فور دو فرانس ، جُزر المارتنيك في الكاريبي ، التي كانت آنذاك مستعمرة فرنسية ، وهي الآن مُقاطعة فرنسية .

     كان والده واحدًا مِن سُلالة العبيد الأفارقة ، وعمل كعامل جُمركي . وكانت والدته من منطقة الألزاس. كانت عائلة فانون من الطبقة المتوسطة الاجتماعية والاقتصادية. وكانت قادرة على تحمُّل رسوم أعرق مدرسة ثانوية في جُزر المارتنيك ، حيث درس فانون .

     خدم خلال الحرب العالمية الثانية في جيش فرنسا الحرة، وحاربَ ضد النازيين. التحقَ بالمدرسة الطبية في مدينة ليون ، وتخصَّصَ في الطب النفسي ، ثم عمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر أثناء فترة الاستعمار الفرنسي. عمل رئيسًا لقسم الطب النفسي في مستشفى البليدة _ جوانفيل في الجزائر، حيث انخرط مُنذ ذلك الحين في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية . وعالج ضحايا طرفَي الصراع على الرغم من كَونه مواطنًا فرنسيًّا .

     وفي عام 1955 ، انضمَّ فانون كطبيب إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية . غادرَ سرًّا إلى تونس ، وعمل طبيبًا في مستشفى منوبة ، وصار رئيس تحرير صحيفة " المجاهد" الناطقة باسم الجبهة، حين كانت تصدر من تونس. كما تولى مهمات تنظيمية مباشرة ، وأخرى دبلوماسية وعسكرية ذات حساسية فائقة . وعُرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية .

     وفي عام 1960 ، صار سفير الحكومة الجزائرية المؤقتة في غانا .

     يُعتبَر أحد أبرز مَن كتب عن مُناهضة الآخرين في القرن العشرين. وقد ألهمت كتاباته ومواقفه كثيرًا من حركات التحرر في أرجاء العالَم ، ولعقود عديدة . آمنَ فانون بأن مقاومة الاستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع، فما أُخِذَ بالقوة لا يُسترَد إلا بالقوة .

     أول كُتب فانون " بشرة سوداء ، أقنعة بيضاء " (1952 ) ، وهو دراسة نفسية للمشاكل التي يُواجهها السُّود بسبب العنصرية . وأيضًا ، تحليل للآثار النفسية السلبية للقهر الاستعماري الذي يُعاني مِنه السُّود.وكانت المخطوطة في الأصل أطروحة للدكتوراة . وكانت هذه الأطروحة ردًّا على العنصرية التي عانى منها فانون أثناء دراسته الطب النفسي في جامعة ليون .

     أمَّا كتابه " مُعذَّبو الأرض " ( 1961 ) ، فهو الذي أطلق شهرته . وفي هذا الكتاب يرى فانون أن باستطاعة الجزائريين الحصول على الاستقلال عن طريق العنف الثوري وَحْدَه .

     نُشر هذا الكتاب _ مع مقدمة لجان بول سارتر _ قبل فترة قصيرة من وفاة فانون. وفيه يُدافع الكاتب عن حق شعب مُسْتَعْمَر في استخدام العنف للحصول على الاستقلال .

     بالإضافة إلى ذلك ، حدَّد العمليات والقوى المؤدية إلى الاستقلال الوطني. وتم حجب كتابه مِن قِبَل الحكومة الفرنسية .

     كانت أعمال فانون مؤثرة للغاية في دراسات ما بعد الاستعمار،والنظرية النقدية، والماركسية. وكان معنيًّا بعلم النفس الاستعماري ، والعواقب البشرية والاجتماعية والثقافية لإنهاء الاستعمار.

     ألهمت حياة وأعمال فانون حركات التحرر الوطنية وغَيرها من المنظمات السياسية في فلسطين وسريلانكا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة .

     إن مُساهمات فانون في تاريخ الأفكار متعددة . وهو مُؤثِّر ليس فقط بسبب أصالة فكره ، ولكن أيضًا بسبب تفوُّق انتقاداته ، ودِقَّة طروحاته ، ومنهجه العِلمي المتماسك .

     وقد طوَّر تحليلاً وجوديًّا اجتماعيًّا عميقًا لقضية العنصرية ، مِمَّا أدى به إلى تحديد شروط العقلانية في الخطابات المعاصرة عن الإنسان ومشكلاته وأحلامه .

     تُوُفِّيَ فانون عن عُمر يُناهز السادسة والثلاثين بمرض سرطان الدم ( اللوكيميا ) ، وقد سافرَ للعلاج في الاتحاد السوفييتي ، ودُفن في مقبرة مُقاتلي الحرية الجزائريين .

28‏/08‏/2021

المبادئ الأخلاقية في التاريخ والمجتمع

 

المبادئ الأخلاقية في التاريخ والمجتمع

للمفكر/ إبراهيم أبو عواد

......................

     التفاعل الإنساني مع عناصرِ التاريخ وتراكيبِ البُنى الاجتماعية ليس له قانون ثابت ، لأن شرعية التفاعل الإنساني مُستمدة مِن قُدرته على توليدِ قوانين جديدة ، وكسرِ القوالب الجاهزة ، والخُروجِ مِن الأُطُر المفروضة على أنظمة المجتمع التي تُعْتَبَر المُحرِّك الحقيقي لتاريخ الفرد والجماعة . والتوليدُ المُستمر للقوانين المعرفية يهدف إلى تكوين أنساق مجتمعية وظيفية تستطيع الربطَ بين حركة التاريخ والحراك الاجتماعي في الظواهر الثقافية ، باعتبار أن الثقافة هي النسقُ الحاكم على انعكاسات الشعور في الواقع المادي ، والسياقُ المُتحكِّم بفلسفة العلاقات الاجتماعية ، التي تعتمد على المبادئ الأخلاقية ، وتستند إلى المعايير الإبداعية .

2

     أهمية المبادئ الأخلاقية تنبع من قُدرتها على تفكيك عناصر التاريخ ، وإعادة تركيبها ، من أجل تكوين منطق إنساني واقعي يُنظِّم التجاربَ الواعية التي يتفاعل معها الإنسانُ في رحلة بحثه عن المعنى . وكما أن الحقيقة التاريخية لا تنفصل عن الماهيَّة الأخلاقية ، كذلك المنطق الإنساني لا ينفصل عن التجربة الواعية . واستحالةُ الفصل بين هذه المُكوِّنات المعرفية تُشير إلى أن وجود الفرد في التاريخ يُمثِّل مسارًا مُتَّصِلًا بلا فواصل زمنية ، وأنَّ سُلطة التاريخ تُشكِّل وحدة وجودية لا تتجزَّأ ، ولا تنفصل عن سلوك الإنسان ذهنيًّا ونَفْسِيًّا. وكُل المسارات التاريخية تلتقي في بؤرة إنسانية واحدة ، تُجسِّد الوَعْيَ كنقطة مرجعية في السلوكيات الاجتماعية المنفتحة على إرادة التغيير ، ونقل شخص الفرد إلى الشخصية ، أي : نقل الفرد من الوصف الخارجي والعَرَض الظاهري إلى الجَوهر المُميَّز الذي يُثبِت قيمته بواسطة الفِعْل لا الشكل . وبالتالي ، تُصبح قيمةُ الفرد ما يُتقنه ، وما يُضيفه إلى الحضارة الإنسانية، وتتحدَّد كَينونةُ الفرد وَفق ما يَمنحه، ولَيس ما يَملكه. وهذه العمليةُ الوجودية ذات الطبيعة الفردية ( إثبات وجود الفرد في صَيرورة التحولات الاجتماعية ) ، لا تنفصل عن عملية نقل المجتمع مِن الخِبرة الذاتية إلى التعبير عن الذات بشكل فعَّال ، لأنَّ المُجتمع إذا لَم يَكشف هُويته الذاتية ، ويُبرز سُلطته الاعتبارية، ويتحدَّث باسم نَفْسِه، فإنَّ الآخرين سيتحدَّثون باسمه ، ويُحدِّدون هُويته ، ويُجرِّدونه مِن سُلطته. ومَن عَجَزَ عن إيجاد مكان له في فضاء التحولات الاجتماعية، فإنَّ الآخرين سيفرضون عليه شُروطَهم ، ويُحدِّدون مكانَه ومكانته وفق مصالحهم . ومَن لم يَقْدِر على صناعة رؤيته الشخصية ، فسوفَ تتم مُحاصرته في زوايا الرؤية التي يُعدِّلها الآخرون لإثبات وجودهم ، ونَفْيِ كُل الكِيانات الخارجة عن نطاق وجودهم .

3

     المبادئ الأخلاقية تَملِك سَطْوَةً وُجوديةً على عناصر التاريخ ، وتَمتلِك سُلطةً تحليليةً في جسد التاريخ . وهي أيضًا تَملِك تأثيرًا ثقافيًّا على أشكال التفاعل الاجتماعي اليومي ، وتَمتلِك سِيادةً فكريةً في تراكيب البُنى الاجتماعية . والسِّياقُ الاجتماعي قد يتكرَّس على أرض الواقع بدون نسق أخلاقي ، ولكنَّه سيظل سياقًا عابرًا بلا وجود حقيقي ، لأنَّه يفتقر إلى الشرعية والمِصداقية ، وليس كُلُّ مَوجود يَمتلك شرعيةَ الوجود . والبُنى الاجتماعية لا تكتسب أهميتها وشرعيتها من وجودها في الإفرازات اللغوية ، واستقرارها في الأحداث اليومية ، وتمركزها في الطبيعة الوظيفية للكِيان الفردي كنظام إنساني ، والنظامِ الجماعي كَكِيان اعتباري ، فَحَسْب ، بل أيضًا تكتسب أهميتها وشرعيتها من قُدرتها على إنتاجِ خطاب أخلاقي يُؤَثِّر في فلسفة العلاقات الاجتماعية ، ويتأثَّر بالشعور الفردي والطموحِ الجماعي ، وإنتاجِ منظومة معرفية قادرة على التَّأمُّل في اللغة والشُّعور والتاريخ والمجتمع ، تُوَازِن بين تأسيسِ الدَّلالات الجوهرية المعنوية في الحياة المادية ، وتوليدِ الأبعاد الفكرية المركزية في المنظور الذهني .

27‏/08‏/2021

غونتر غراس واتهامات معاداة السامية

 

غونتر غراس واتهامات معاداة السامية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

..................

     وُلد الأديب الألماني غونتر غراس ( 1927_ 2015 ) في مدينة دانتسيغ الحرة المعروفة حالِيًّا بـِ "غدانسك" ، لأب بروتستانتي ألماني وأم كاثوليكية ألمانية مِن أصول بولندية .

     وكانت مدينة دانتسيغ الحرة وقتها تخضع لإدارة دولية ضمن أراضي بولندا عملًا باتفاقيات فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى ، لكنها ضُمَّت إلى بولندا بعد الحرب العالمية الثانية .

     تلقَّى دراسته الابتدائية والثانوية في غدانسك ، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1944 تطوَّعَ للعمل في سلاح الغوَّاصات الألماني، ثُمَّ أُلحق بوحدات قتالية أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقع في أسر القوات الأمريكية التي احتجزته في معسكر للأسرى ، ثُمَّ أطلقته عام 1946 ، أي بعد عام من انتهاء الحرب .

     درسَ فن النحت في مدينة دوسلدورف الألمانية لمدة سنتين ( 1947 _ 1948 ) ، ثم أتمَّ دراسته الجامعية في مجمع الفنون في دوسلدورف وجامعة برلين ( 1946_ 1956) . وقد أكمل دراسته العليا في جامعة برلين للفنون لغاية عام 1956 .

     عَمِلَ غراس بعد الحرب في منجم في ألمانيا الغربية ، ومُزارعًا بعد تعذُّر عودته إلى مدينته التي باتت خاضعة للبولنديين والسوفييت ، قبل أن يُكمل دراسته الجامعية والدراسات العليا .

     عَمِلَ نَحَّاتًا ومُصَمِّمًا ومُؤلفًا، ثُمَّ تولى خلال الفترة ( 1983 _ 1986 ) رئاسة أكاديمية برلين للفنون .

     يُعَدُّ غراس _ الذي انتقد سياسات إسرائيل النووية وبيعها غواصات ألمانية الصُّنع _ أحد أهم الأدباء الألمان . وقد نالت روايته "الطبل الصفيح" شُهرة عالمية كبيرة بعد نشرها عام 1959، وتُرْجِم هذا العمل الأدبي إلى لغات عالمية كثيرة من بينها العربية. وهذه الرواية هي جزء من ثلاثيته المعروفة بـِ "ثلاثية دانتسيغ" وتضم أيضًا روايتي "القط والفأر" (1961) و"سنوات الكلاب" (1963). ومن رواياته المشهورة أيضًا "مئويتي" (1999) ، و"مِشية السرطان" ( 2002) .

     كتب مسرحيتين، أولاهما "الطهاة الأشرار" (1956) و"الفيضان" (1957)، وأصدر أربع مجموعات شعرية في أعوام 1956 و1960 و1967 و1971 .

     عُرِفَ بمواقفه المساندة للقضايا الإنسانية في العالَم، ونَشر في عام 2012 قصيدة تنتقد إسرائيل وتتهمها بتهديد السِّلم العالمي، وهو ما أغضب حكومة الكيان الصهيوني ، وأثارَ جدلاً إعلاميًّا واسعًا . وقد تعرَّضَ إلى موجة انتقادات بعد نشره لهذه القصيدة النثرية التي تحمل عنوان " ما ينبغي أن يُقال " ، قال فيها إِنَّ إسرائيل من خلال تحضيراتها لضرب المنشآت النووية في إيران تُمَثِّل تهديدًا للسلام العالمي ، ولِدَرْء هذا التهديد يجب التكلم الآن ، وأنه سَئِمَ مِن نفاق الغرب فيما يتعلق بإسرائيل ، وأهوال النازية ليست ذريعة للصمت .

     شَنَّت وسائل الإعلام الألمانية، مثل دي فيلت ودير شبيغل ، حملة عليه تتهمه بمعاداة السامية مُذَكِّرَةً بأنه خدم في شبابه في قوات إس إس ( وهي منظمة كانت تابعة إلى الحزب النازي الألماني ، أُنشِئت عام 1925، وكُلِّفت بمهمة حماية أدولف هتلر ) . وقد طرح غراس في قصيدته أن إيران وإسرائيل كليهما يجب أن تخضعا لرقابة دولية على أسلحتهما النووية .

     قُبَيل وفاته، أعرب غراس عن مخاوفه إزاء انجراف العالَم إلى نوع جديد من الحرب، وقال في تصريحات لصحيفة "نويه فيستفيليشه" الألمانية : (( نسمع في الفترة الأخيرة تحذيرات متكررة من حرب عالمية ثالثة . أتساءل أحيانًا ما إذا لَم تكن تلك الحرب قد بدأت بالفعل بطريقة مختلفة تمامًا عَمَّا عَهِدْناه في الحربين العالميتين الأولى والثانية )) .

     وأشار عميد الأدباء الألمان إلى أن أشكالاً جديدة من الحروب قد تطورت حاليًّا، مُضيفًا أنه يمكن عبر الإنترنت وَحْدَه عرقلة أنظمة وإدارة حروب اقتصادية، وقال: (( هذا يحدث بالتوازي مع نزاعات حربية تقليدية ، مِثل التي نشهدها في أوكرانيا وسوريا وأماكن أخرى )) .

     حُوِّلَت رواية " الطبل الصفيح"_ التي تختصر أهم أحداث القرن العشرين من منظور أوروبي _ إلى فيلم سينمائي عام 1979 ، أخرجه فولكر شلندروف ، وكوفئ الفيلم بجائزتَي أوسكار .

     حصل غراس على جائزة نوبل للآداب عام 1999 لِدَوره في إثراء الأدب العالمي ، خصوصًا في ثلاثيته الشهيرة "ثلاثية دانتسيغ"، بالإضافة إلى جوائز محلية كثيرة ، مِنها : جائزة كارل فون أوسيتسكي عام 1967، وجائزة الأدب من مجمع بافاريا للعلوم والفنون عام 1994. وفي عام 2005 حصل على شهادة الدكتوراة الفخرية من جامعة برلين . تُوُفِّي في إحدى العيادات في مدينة لويبيك عن عُمر يناهز الثامنة والثمانين .

26‏/08‏/2021

غوتفريد ليبنتز والتمهيد للفلسفة التحليلية

 

غوتفريد ليبنتز والتمهيد للفلسفة التحليلية

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

......................


     وُلد الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني غوتفريد ليبنتز ( 1646_ 1716) في لايبزيغ بولاية سكسونيا. كان والده أستاذًا للفلسفة الأخلاقية في جامعة لايبزيغ . ورث الصبي فيما بعد مكتبة والده الشخصية . وقد مكَّنته هذه المكتبة من دراسة مجموعة واسعة من الأعمال الفلسفية واللاهوتية المتقدمة ، تلك التي لَم يكن ليتمكن من قراءتها حتى سنوات دراسته الجامعية . وقد كانت غالبية كتب والده باللغة اللاتينية ، وهذا أدى إلى إتقانه اللاتينية في سن الثانية عشرة .

     يشغل ليبنتز موقعًا هامًّا في تاريخ الرياضيات وتاريخ الفلسفة . أسَّس ليبنتز علم التفاضل والتكامل بشكل مستقل عن إسحاق نيوتن ، كما أن رموزه الرياضية ما زالت تُستخدَم بشكل شائع منذ أن تم نشرها والتعريف بها.وقوانينه مِثل:" قانون الاستمراية " و"قانون التجانس الفائق"،

كشفت بُعد نظره ، ولَم يتم العمل بها في علم الرياضيات حتى القرن العشرين. كما أنه كان أحد أكبر مُنتجي الآلات الحاسبة الميكانيكية، وبينما كان يعمل على إضافة عمليتَي الضرب والقسمة لحسَّابة باسكال، كان الأول في التعريف بآلة الحساب الدولابية الهوائية، كما أنه اخترع "عجلة ليبنتز" والتي استُخدمت في المتر الحسابي ، وهي أول آلة حاسبة تم صنعها وإنتاجها بشكل تجاري، كما أنه عدَّل النظام الرقمي الثنائي ، وهو النظام التي تقوم عليه الحواسب الرقمية .

     أمَّا ما يخص الفلسفة ، فقد عُرف عن ليبنتز "تفاؤله" كاستنتاجه بأن هذا الكون هو أكمل خلق اللَّه ، بحيث لا يمكن أن يوجد أكمل منه . كما أنه كان ، بالإضافة إلى رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا، أحد أعمدة الفلسفة العقلانية خلال القرن السابع عشر الميلادي . عمله الفلسفي مهَّد الطريق للمنطق الحديث والفلسفة التحليلية ، وكان أيضًا مُتَعَلِّقًا بإرث الفلسفة المدرسية القروسطية، والتي يَقوم الاستنتاج _ أو الاستنباط _ فيها، من خلال استعمال العقل والعمل به على المبادئ الأولية والبديهيات ، وليس على الدليل التجريبي .

     قام ليبنتز بمساهمات كبيرة في علم الفيزياء والتقنية ، كما أنه تنبَّأ بأفكار ظهرت لاحقًا في الفلسفة . وله إسهامات هائلة في نظرية الاحتمال، والبيولوجيا، والطب، وعلم الأرض، وعلم النفس،واللغويات،وعلم المعلومات. ألَّفَ في الفلسفة، والسياسة، والقانون، والأخلاق، واللاهوت، والتاريخ،وفلسفة اللغة.وهذه المساهمات العريضة كانت منشورة ومُوزَّعة ما بين دوريات وعشرات الآلاف من الرسائل والمخطوطات . كتب بلغات عِدَّة أهمها : اللاتينية، والفرنسية، والألمانية .

     يَظهر تفكير ليبنتز الفلسفي مُجَزَّأ،لأن كتاباته الفلسفية تتكوَّن بشكل رئيسي من العديد من القطع القصيرة: مقالات المجلات ، والمخطوطات التي نُشِرت بعد وفاته بفترة طويلة ، والعديد من الرسائل إلى العديد من المراسلين. وقد كتب أطروحتين فلسفيتين طويلتين فقط .

     قدَّم ليبنتز نفْسه كفيلسوف في خطابه حول الميتافيزيقا ، الذي ألَّفه عام 1686. ولَم يُنشَر حتى القرن التاسع عشر .

     وفي عام 1695 ، دخل ليبنتز في الفلسفة الأوروبية بمقال صحفي بعنوان " النظام الجديد لطبيعة وتوصيل المواد " .

     قام بتأليف مقالاته الجديدة عن التفاهم الإنساني ، وهو تعليق مُطوَّل على مقالة جون لوك ( 1690 ) حول فهم الإنسان . ولكن عند معرفته بوفاة لوك في عام 1704 فقد الرغبة في نشر هذه المقالة .

     التقى ليبنتز مع سبينوزا في عام 1676 ، وقرأ سبينوزا بعض كتاباته غير المنشورة ، ومنذ ذلك الحين يُشتبه في الاستيلاء على بعض أفكار سبينوزا . وفي حين كان ليبنتز مُعْجَبًا بعقل سبينوزا القوي ، فقد كان رافضًا لاستنتاجات سبينوزا ، خاصةً عندما كانت لا تتفق مع العقيدة المسيحية .

     وعلى عكس ديكارت وسبينوزا ، كان ليبنتز يملك تعليمًا جامعيًّا شاملاً في الفلسفة . تأثر بأستاذه في لايبزيغ جاكوب توماسوس ، الذي أشرف أيضًا على أطروحته الجامعية في الفلسفة . كما قرأ ليبنتز بفارغ الصبر فرانسيسكو سواريز ، وهو يهودي إسباني يَحظى بالاحترام والتقدير حتى في الجامعات اللوثرية .

     يرتبط اسم ليبنتز بالتعبير " دالة رياضية " ( 1694 ) التي كان يصف بها كل كمية مُتَعَلِّقة بمنحنى، مِثل : مَيل المنحنى ، أَو نقطة معينة على المنحنى .

     ويُعتبَر ليبنتز مع نيوتن المُؤسِّسَيْن لعلم التفاضل والتكامل . وقد طوَّر ليبنتز مفهوم التكامل وقاعدة الجداء ( تُدعى أيضًا قانون ليبنتز ) ، وهي قاعدة تُستخدَم لحساب التفاضل لجداء توابع قابلة للمُفاضلة ، كما طوَّر المفهوم الحديث لمبدأ حفظ الطاقة .

25‏/08‏/2021

غرهارت هاوبتمان وقلق المصير

 

غرهارت هاوبتمان وقلق المصير

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

...................

     وُلد الأديب الألماني غِرهارت هاوبتمان ( 1862_ 1946) في بلدة أُوبر، وهي منتجع صحي معروف في منطقة شليزيا ، وتُوُفِّيَ في المنطقة نفْسها ( في بولونيا حاليًّا ) . يُعتبَر مِن أهم أدباء الحركة الطبيعية في ألمانيا . وقد حصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1912 .

     كان والده يمتلك فندقًا ومطعمًا يُديرهما مع زوجته. وقد صار أخوه الأكبر كارل أديبًا معروفًا. وكان هاوبتمان منذ طفولته شخصية قلقة للغاية ، وشديدة الاضطراب ، لا يعرف الاستقرار ، ولا يُدرك الهدف من حياته ، ولا يعرف الغاية من وجوده . وهذه الفوضى الشاملة قادته إلى ترك المدرسة قبل امتحانات الشهادة الثانوية ، وتحوَّل في عام 1878 إلى المعهد الزراعي .

     وفي الفترة ( 1880 _ 1885 ) درس النحت والتاريخ والرسم والتمثيل بشكل متقطع ، دون أن يتم أي فرع من هذه العلوم والفنون . ولَم يحصل على أية شهادة تُؤهِّله للعمل في أي مجال. وفي ظل هذا الضياع، قام برحلة عبر بلدان شمالي البحر الأبيض المتوسط ، من أجل كسر الروتين في حياته، وتحطيم الفوضى التي تحيط به من كل الجوانب. واستقر بضعة أشهر في روما .

     وفي عام 1885، تعرَّف في برلين على الشابة الثرية والجميلة ماري تينمان ، فتزوَّجا واستقرَّا في مَنْزل على بحيرة إركنر خارج برلين . وقد كان هذا الزواج هو المنعطف المصيري الذي غيَّر حياة هاوبتمان إلى الأبد . فهذا الشَّاب الضائع في متاهة الحياة بلا بوصلة ، والغارق في القلق والفوضى بلا هدف ، استطاع أن يجد حُبَّ حياته ، واكتشاف جدوى وجوده في شخصية زوجته التي أحبَّها ، واعتمد على ثروتها ، من أجل التفرغ للكتابة الأدبية . وقد كانت أموال زوجته هي حجر الزاوية في مشروعه الإبداعي . ولولا أموالها لَبَقِيَ تائهًا ومُتَسَكِّعًا في الدروب ، ومنسيًّا في هذا العالَم .

     وصل هاوبتمان إلى حالة الهدوء والصفاء الذهني والمصالحة مع الذات ، فلم يعد يُفكِّر في تحصيل قُوت يَومه.وهذا جعله يَتفرَّغ للكتابة، ويُركِّز على مشروعه الإبداعي الشخصي بعيدًا عن ضغوطات الحياة المادية . فاتَّصل في عام 1888 بمجموعة أدبية من أتباع المذهب الطبيعي ، وهو مذهب في الفن والأدب ، نشأ في فرنسا عام 1880 ، وتميَّز بالنُّزوع إلى تطبيق مبادئ العلوم الطبيعية وأساليبها على الأدب والفن ، وبخاصة النظرة الداروينية إلى الطبيعة . وقد صار هاوبتمان أبرز مُمثِّلي المذهب الطبيعي في المسرح والرواية .

     وبعد هذا الشَّوط الطويل الذي قطعه هاوبتمان ، رجع إلى قلقه وحَيرته واضطرابه ، وسيطرت عليه حالة انعدام الاستقرار ، إذ إنه بدَّل مَنْزله خمس مرات ، وتنقَّل بين برلين وشليزيا وشاطئ بحر الشمال ، وسافر إلى عدد من الدول الأوروبية عدة مرات ، كما زار الولايات المتحدة في عام 1923 في جولة محاضرات واسعة عن الثقافة الألمانية بمناسبة مرور قرن على وفاة غوته .

     لم يهتم هاوبتمان بالفكر السياسي ، لكنه كان مُعارِضًا للنظام الملكي الفِلهِلميني ( نِسبة إلى سلالة الملك فِلهِلم المستبد ) ، ومُؤيِّدًا للفكر الجمهوري . أمَّا في الفترة النازية ، فقد انسحب من الحياة العامة ، واعتزل الناس ، ولزم بَيته ، وفضَّل عدم التصادم مع النازيين ، وقد أخذ عليه الديمقراطيون واليساريون هذا الموقف السلبي الْمُهادِن .

     كان هاوبتمان مهتمًّا بقضايا عصره ، مثل قضية المنبوذين اجتماعيًّا واقتصاديًّا ، والمضطهَدين في الظروف الصعبة ، والذين يحاولون جاهدين تحرير أنفسهم من القيود الذاتية ، والقيود التي فرضها عليهم المجتمع ، ويُدافعون عن كرامتهم وحقوقهم الإنسانية المسلوبة .

     وفي مجال المسرح ، حقَّق هاوبتمان نجاحًا عالميًّا وتأثيرًا هائلاً . وقد اعتمد على الصدق في تصوير مشكلات الواقع وصراعاته ، والتركيز على جوهر هذه المشكلات ، مِن دون ترهُّل في البُنية الفنية ، أو ثرثرة لغوية لا فائدة منها .

     كان في مسرحياته الطبيعية ملتزمًا بالقضايا الاجتماعية ، ومُؤمنًا بالفكر الثوري دون الارتباط بحزب سياسي أو أيديولوجية فكرية ضيِّقة . أمَّا في مسرحياته التي تنتمي إلى الرومانسية الجديدة ، فهي ذات طابع حكائي خُرافي، تغيب فيها الصراعات الاجتماعية ، ويختفي مبدأ إدراك القوى المحرِّكة لها . لذلك فقد الكاتب تأثيره، وعجز عن بناء مسرحيات متماسكة فَنِّيًّا.

     مِن أبرز مسرحياته: قبل شروق الشمس(1889). المصالحة (1890).النَّسَّاجون ( 1892). مِعطَف القُندس ( 1893) .

     أمَّا أبرز رواياته : جزيرة الأم العظيمة ( 1928 ) ، الناس والروح ( 1932) ، مغامرة شبابي  ( 1937) .

24‏/08‏/2021

غراهام غرين وكراهية أمريكا

 

غراهام غرين وكراهية أمريكا

للكاتب/ إبراهيم أبو عواد

................

     وُلد الكاتب الإنجليزي غراهام غرين(1904_ 1991) في بلدة بركَمْستيد بالقرب من لندن. كان والده مديرًا لمدرسته التي حاولَ الهرب منها ، فأُرْسِل إلى لندن للعلاج لدى طبيب نفسي آواه في مَنْزله ، وعَدَّ تلك الفترة أسعد أيام حياته . درس لاحقًا في جامعة أكسفورد ، وبعد تخرُّجه تحوَّلَ عن الكنيسية الأنكليكانية نحو العقيدة الكاثوليكية ، ثُمَّ تزوَّج عام 1927 فتاةً من المحيط ذاته . عمل في أثناء الحرب العالمية الثانية في وزارة الخارجية البريطانية ، ومكَّنه ذلك من معرفة بلدان كثيرة ، صارت لاحقًا مسرحًا لأحداث رواياته . وقد عمل قبل ذلك مُحَرِّرًا في صحيفة التايمز ، إلا أنه تركها عام 1930 ليتفرَّغ للكتابة . تتَّصف غالبية مؤلفاته بصبغة الرواية البوليسية ، مِثل : " قطار إسطنبول"( 1932)، المعروفة بعنوانها الأكثر شُهرة " قطار الشرق السريع "، والتي ذاعت شُهرته بسببها ، ووصفها بأنها تسلية . ومعَ هذا ، فإن نزعة دينية بدأت بالظهور لدى طَرْقه موضوعات الإيمان والصراع بين الخير والشر، والخيارات المتاحة أمام الإنسان ، والمفارَقات التي يتَّصف بها هذا الوضع (الشرط) الإنساني فيما أسماه غرين " الغرابة المخيفة للعناية الإلهية " . وتظهر هذه النظرة القدرية واضحةً في روايات مِثْل: صخرة برايتون ( 1938)، و " العميل السِّري"  ( 1939) التي عالَجَ فيها موضوع اليأس في ظروف الحرب الأهلية الإسبانية، و"وزارة الخوف "  ( 1943)،و" الرَّجل الثالث " ( 1950) ، التي كتبها للسينما أصلاً ، وصارت مسلسلاً تلفزيونيًّا، حول الحب والجاسوسية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وأيضًا في " عميلنا في هافانا " ( 1958) في كوبا ما قبل الثورة. كتب أولى رواياته المهمة " السُّلطة والمجد" ( 1940)، وحكى فيها قصة القِس المكسيكي السِّكير ، الملتزم والخائن في آن معًا ، والتحولات التي تطرأ على حياته ، والصراع الذي يُعانيه ، والضغوط المادية والروحية التي يتعرَّض لها ، والخيارات التي يُواجهها ، مِمَّا أثار حفيظة الكنيسة الكاثوليكية فأدانتها .

     وبالنهج ذاته كتب " صُلب المسألة " ( 1948 ) حول رئيس الشرطة في مدينة أفريقية ، وملابسات حياته ومواقفه من الحياة والحب ، وأخيرًا الموت ( الانتحار ) . وأيضًا " نهاية العلاقة " ( 1951)، حيث لا يمكن للإيمان أن يصير مخرجًا، أو مهربًا للشخصيات، بل هو " صُلب المسألة" تمامًا كما هو الحب . وتكمن في أحد تقارير غرين الصحفية حول فيتنام نواة روايته " الأمريكي الهادئ " ( 1955). ففي أثناء طيرانه مع طيار فرنسي فوق دلتا نهر هناك ، يقوم الطيار بقصف قارب ينساب بسلام فوق سطح النهر ، وقتل رُكَّابه ، للتخلص من شعوره بالرتابة والملَل . وفي ذلك المثال الأوضح لعبثية الوجود والفعل المجاني . وتُعتبَر رواية " القنصل الفخري " ( 1973) مِن أفضل روايات غرين ، وتستحضر عصر الفوضى والاختطافات السياسية في أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن العشرين .

     كان غرين شغوفًا بالترحال والمخاطر والمغامرة ، حتى طغى ذلك على حياته وكتاباته ، التي شملت الأنواع الأدبية كافة. والمحيط المثالي في أغلب رواياته هو المناطق ( الساخنة ) مَجارًا وحقيقةً. والعالَم هو مسرحه ، مِن كوبا إلى المكسيك، مرورًا بالأرجنتين ، ومِن أوروبا إلى آسيا ، مُرورًا بأفريقيا ، وهو محيط البلاد الاستوائية ، حيث الحر والحرب والفقر والفساد والصراع من أجل البقاء،والحفاظ على الإيمان، ومواجهة الجنون،حيث تظهر الأحاسيس الإنسانية الدفينة إلى السطح. وصف غرين نفسه في مرحلة متأخرة من حياته بأنه " ملحد كاثوليكي "، و " كاثوليكي يكتب وليس كاتبًا كاثوليكيًّا " ، كذلك رفض تسميته بالكاتب الوجودي ، بالرغم من كثير مِمَّا يربطه بالوجودية : (( أنا أشعر بالضيق ، إذن أنا موجود )) .

     تميَّز غرين بشخصية متفردة في حياته الخاصة وفي أدبه ، الذي أضفى عليه عناصر التشويق والإثارة ، إضافة إلى الحبكة المحكَمة والبناء الروائي المتقَن ، وتمتَّعَ بالرغم من واقعيته ببعد رمزي وميتافيزيقي . وقد عبَّر عن أسلوب عمله وطريقة تكوينه لشخصياته في يوميات كتبها في أثناء رحلة في أفريقيا بعنوان " بحثًا عن شخصية " ( 1961) ، وهو بحث مستمر عن الأفضل ، ومن أجل اكتشاف الذات .

     كانت لغرين سياسة خارجية مستقلة عن الخط الرسمي لبلاده ، فقد صعق حكومته حين ظَهَر إلى جانب الرئيس الكوبي فيدل كاسترو . وعُرِف بعدائه المعلَن للولايات المتحدة الأمريكية وما تُمثِّله ، وباحتقاره لرؤسائها الذين رأى فيهم تجسيدًا للشر في العالَم . وكانت له نظرية خاصة في الولاء والخيانة ، إذ تعاطف مع بعض الجواسيس الذين تجسَّسوا لصالح الاتحاد السوفييتي ( سابقًا )، ورفع في أدبه من أهمية الجاسوس ، إذ يعزو الخيانة إلى المحيط والضغوط الخارجية، وهو تقليد أخذه عنه آخرون كتبوا في النوع الأدبي ذاته ، ويزعم بعض دارسيه أن ذلك كله لَم يكن سوى غطاء لعمله في الاستخبارات البريطانية .

     يُعتبَر غرين أحد أهم الكُتَّاب الإنجليز المحدَثين ، وأغزرهم إنتاجًا ، وأكثرهم انتشارًا . وعبَّر في رواياته عن موقفه من السُّلطة والهيمنة والدِّين والسياسة .