وُلد الفيلسوف
الروماني سينيكا الأصغر ( 4 ق. م_ 65 م) في قُرطبة في إسبانيا. يُلقَّب بـِ سينيكا
الفيلسوف أو الأصغر ، تمييزًا له عن والده الخطيب الشهير .
تزوج في سن باكرة ، ومات ابنه الوحيد طفلاً
. أقام مُدة في مصر ( 16م _ 31م ) ضيفًا لدى خالته زوجة غايوس غالريوس حاكم مصر
الروماني .
تعلَّمَ في صباه النحو والخطابة ، وحينما
استهوته الفلسفة تتلمذ على يد الفلاسفة الفيثاغوريين، وبوَحْي منهم صار نباتيًّا .
وكان صديقًا مُقَرَّبًا من الفيلسوف ديميتريوس ، فتشرَّب منه الفلسفة الكلبية ،
كما تشرَّب الفلسفة الرواقية من أستاذه أتَّالوس .
اشْتُهِر سينيكا
كاتبًا وخطيبًا خلال حُكم غايوس كاليغولا ( 37 م _ 41 م ) الذي حقد عليه لأنه أبدى
في مجلسه ذكاءً أكثر مِمَّا يجب ، ثم اتهمه بالزنى بأخت الإمبراطور يوليا ليفيلا ،
ونفاه إلى جزيرة كورسيكا ، حيث بقي حتى استدعته القيصرة أغرِبينا عام 49 م ،
للإشراف على تربية نيرون ابنها من زوجها الأول. ولَمَّا تُوِّجَ
نيرون قيصرًا،صار سينيكا مستشاره الأول حتى عام 62 م. أي إنه كان المسؤول عن كثير
من شؤون الإمبراطورية وأحداثها حتى فقد حَظْوته وهَيمنته على القيصر الشاب،
فاستأذنه باعتزال الحياة السياسية والتخلي له عن ممتلكاته كافة، فقبل نيرون الشق
الأول ورفض الثاني ، حتى عام 65م حين اتهمه بالتآمر عليه ، وأجبره على الانتحار ،
وصادر ممتلكاته .
يُعَدُّ سينيكا واحدًا من أبرز الدُّعاة إلى
الفلسفة الرواقية، وقد وقف جُل كتاباته الفلسفية والمسرحية من أجل هذا الهدف. ومن
بين أعماله النثرية ما يُعرَف باسم " المحاوَرات " ، وهي في الواقع
مقالات في الأخلاق ، قصيرة نسبيًّا ، وتدل عناوينها على مضامينها ، مِثل : "
عن العناية الإلهية "، و " عن صمود الحكيم " ، و " عن الغضب
" ، و " عن الحياة السعيدة " ، و"عن الرحمة" و "
المسائل الطبيعية " ، وغَيرها . ومن أعماله المهمة " الرسائل الأخلاقية "
( 41 م _ 62 م ) وهي عمليًّا دراسات في المسائل الأخلاقية صِيغت على شكل رسائل،
مُوجَّهة إلى صديقه لوسيليوس حاكم صِقِلِّية . ومن أطرف كتابات سينيكا الهجائية
مقالته الطويلة " مسخ الإنسان إلى نبات القرع " ، التي ترتبط بمبدأ
تناسخ الأرواح في الفكر الفيثاغوري ، أو مقالته "
سخرية من موت كلاوديوس " التي تستخف بفكرة تأليه كلاوديوس بعد وفاته .
تحتل أعمال سينيكا النثرية مكانةً مرموقةً
بين كتب تاريخ الفلسفة، لأنها تُعَدُّ المصدر الرئيسي للفكر الرواقي ، أمَّا
أسلوبه فيعكس كل سمات أدب عصره، وإن كان يتفرد بخصائصه المميزة .
اعتنقَ سينيكا مذهب وَحدة الوجود لدى
الرواقيين، فاعتبر العالَم كُلاًّ ماديًّا وعقليًّا واحدًا، وأوضح بصورة أساسية
المشكلات الأخلاقية التي إذا ما عولجت على نحو سليم ، تمكَّنَ الإنسان من بلوغ
السعادة والأمن والخير، لهذا كان سينيكا يدعو إلى الأخوة والمحبة بين الناس،
فاشتهرت مقولته " كن محبوبًا من الجميع حيًّا ، ومأسوفًا عليه مَيْتًا "
. وكان يُحارب أيضًا الانفعالات ، ويدعو إلى لغة العقل المتَّزن، فالرجل الحكيم هو
الذي يسمو على الغضب متجاوزًا تجارب الحياة القاسية. ولَم يهتم سينيكا
بالميتافيزيقا، وفصلها عن ميدان الأخلاق، فاتَّجه إلى الناحية العملية، أي الحكمة
العملية للحياة ، وانصرف نهائيًّا عن الأسس النظرية الأولى التي قامت عليها
الأخلاق الرواقية، فاهتم بالحياة الشعبية، لأنه وجد فيها ما يُلائم مزاجه وطبيعته
الخاصة .
أمَّا سينيكا المسرحي ، فقد كتب تسع مسرحيات
مأساوية ( تراجيدية )، لَم تُعرَف تواريخ تأليفها بدقة، إذ لَم يُعرَض أي منها على
مسارح روما أو غَيرها فتُعرَف وتشتهر. ولَم يكن في نيَّة مؤلفها أن تُعرَض، بل أن
تُقرَأ في جلسات الجدل الفكري مِن قِبَل أحد الحضور .
وكان غرض سينيكا من مسرحياته تجسيد أفكاره
الفلسفية والأخلاقية الرواقية في شخصيات تخوض صراعات درامية حادة بين قوتين :
العقل والحكمة من طرف، والعاطفة الجامحة والغريزة من طرف آخر، فتكتسب الأفكار بذلك
حيوية الحياة وفاعليتها. فالتعبير الأدبي أكثر طلاوة على الأذن ، وأشد نفاذًا إلى
العقل ، وأعمق تأثيرًا في القلب ، من النصوص الفلسفية التي لا يصل إلى فحواها إلا
الضالعون في لغتها، وسينيكا لا يهتم بهؤلاء قَدْر اهتمامه بعامة الناس .
كان سينيكا مثل كبار مثقفي عصره ضليعًا في
اللغة اليونانية وثقافتها، ولا سِيَّما على صعيد الفلسفة والأدب والمسرح، ومن هنا
فإن مصادر مآسيه بلا استثناء يونانية، إمَّا من الملاحم الكبرى والأساطير الكثيرة
ذات التأويلات المتعددة ، وإمَّا من النصوص المسرحية التراجيدية مباشرة .
تشمل أعمال سينيكا الموجودة 12 مقالة فلسفية، و124 رسالة ومقالة ، ورواية ساخرة، وتسع روايات مأساوية.وتكشف رواياته المأساوية موضوعات استعملها الروائيون الإغريق. ولكنها ميلودرامية انفعالية، عتيقة ومليئة بلغة البلاغة. وتُركِّز على الفكرة الرواقية القائلة " إن المصيبة تنتج عندما تُحطِّم العاطفةُ العقلَ " . وكانت الروايات ذات أثر واسع على الدراما التراجيدية في إيطاليا، وفرنسا وإنجلترا في العهد الإليزابيثي .