وُلد الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار ( 1884
_ 1962 ) في منطقة بار سور أوب ، وتُوُفِّيَ في باريس . عمل في بداية حياته موظفًا
في مصلحة البريد في باريس، ثم درس الفلسفة ونال درجة الدكتوراة من كلية الآداب (
جامعة باريس ) عن رسالة بعنوان "
المعرفة التقريبية " . شغل كرسي تاريخ الفلسفة والعلوم في السُّوربون في
الفترة ( 1940 _ 1945 ) .
يُعتبَر باشلار واحدًا من أهم الفلاسفة الفرنسيين، وهناك مَن يقول إنه أعظم
فيلسوف ظاهري، ورُبَّما أكثرهم عصريةً أيضًا . فقد كرَّس جزءًا كبيرًا من حياته
وعمله لفلسفة العلوم ، وقدَّم أفكارًا متميزة في مجال الإبستمولوجيا ( فرع من فروع
الفلسفة . تهتم بطبيعة ومجال المعرفة ، أو نظرية المعرفة العلمية، وتعني البحث في
إمكان المعرفة ومصادرها وطبيعتها ). وتُمثِّل مفاهيم باشلار في العقبة المعرفية ،
والقطيعة المعرفية ، والجدلية المعرفية ، والتاريخ التراجعي ، مُساهماتٍ لا يمكن
تجاوزها . وقد تركت آثارها واضحةً في فلسفة مُعاصريه ومَن جاء بعده .
برز باشلار كواحد من أهم وأشهر المتخصصين
بفلسفة العلوم ، حيث درس بعمق الوسائل التي يحصل بها الإنسان على المعرفة العلمية
عن طريق العقل ، ولكنه فاجأ الجميع عندما ظهر كتابه " التحليل النفسي للنار
" ( 1938 ) ، حيث تحوَّل تمامًا من منهجه المعروف في فلسفة العِلم إلى موضوع
جديد حتى في مجال التحليل النفسي ، حيث الإنسان هو ميدان التحليل النفسي للمادة .
ومِن أجل فهم ظاهرية باشلار ، ينبغي القول إن الفكرة الرئيسية في الظاهراتية ، كما
أوجدها إدموند هوسِّرل ، هي قَصْدية الوعي ، أي إن الوعي يتَّجه دائمًا إلى موضوع
، ويُؤكِّد مقولة : (( لا يوجد موضوع من دون ذات )) . كما يُؤكِّد المنهجُ
الظاهراتي على الامتناع عن الحكم فيما يتعلق بالواقع الموضوعي ، وعدم تجاوز حدود التجربة المحضة (
الذاتية ) ، ويؤكد على عدم اعتبار موضوع المعرفة موضوعًا واقعيًّا تجريبيًّا
واجتماعيًّا ، بل مُجرَّد وعي مُفَارِق ( مستقل عن التجربة والمعرفة المحدَّدة ،
أي ميتا فيزياء ) . إلا أن ظاهرية باشلار ولا سِيَّما في دراسته للخيال الشعري (
المرحلة الثانية من حياته ) ليست متشددة إلى هذه الدرجة ، فهو خِلافًا للظاهراتية
التقليدية ، يرى أن هنالك واقعًا موضوعيًّا له شروط موضوعية ، تصلح قوانين العِلم
لدراسته . وربما تكمن ميزة باشلار الرئيسية وجاذبية فكرة في امتلاكه ذهنًا حُرًّا
لا تُقيِّده أي مِن المواصفات ، سواء في اختيار موضوعاته أم في مُعالجاته .
وبعد
أن اهتم باشلار بفلسفة العلوم في الجزء الأول من حياته ، تَحَوَّلَ إلى دراسة
التخيل الشاعري وفلسفة الجمال والفن ، إذ ابتدأها مع " التحليل النفسي للنار
" ، وأنهاها بكتابه الأخير " شاعرية أحلام اليقظة " ( 1960 ). وفي الجزء الثاني من حياته ، أصبح
الموضوع الرئيسي عند باشلار ، هو التَّخيل أو عمل المخيِّلة، بعد أن كان العقل ،
وأصبح يسعى إلى القيام بدراسة فلسفية شاملة للإبداع الشعري ، واستسلمَ لدافع لا يُقاوَم
للتواصل مع القوى التي تَخلق المعرفة ، لا التي تُحصِّلها . والمجال الوحيد الذي
يأمل أن يرى فيه تلك القوى، وهي تعمل، هو الشِّعر، لذلك كتب مجموعة الكتب في
الجزء الثاني من حياته ، طبَّق فيها منهجه هذا .
إن أحد أهم الأسباب التي تدعو للاهتمام بهذا
الفيلسوف، اهتمامه بالإبداع الشعري والجمالي
عمومًا، واعتباره التَّخيل الشعري ذا أهمية فلسفية كبيرة . وفي كتابه الأخير"شاعرية
أحلام اليقظة " دعوة كبيرة إلى التخلص من جميع القيود التي تحدُّ مِن تذوقنا
للإبداع عمومًا، وللشعر خصوصًا. وباشلار هنا يتجاوز جميع نظريات التحليل النفسي
للأدب والنظريات البنيوية وما بعدها، والتي انتشرت واحتلت مكانة كبيرة في الفكر
والثقافة .
يرى باشلار في الخيال بِشِقَّيْه العِلمي
والشاعري أساسًا لِمَا يُسمِّيه الفلسفة المفتوحة ، وهي فلسفة تتوسط ( المثالية
والمواصفاتية والصورية ) التي تعلوها، والواقعية والاختبارية والوضعية التي تأتي
تحتها . وهي فلسفة يُطلِق عليها باشلار أسماء مختلفة منها : العقلانية التطبيقية
والمادية التقنية.
نقد
باشلار التحليل النفسي عمومًا، والفرويدية خصوصًا ، وهو يرى أن التحليل النفسي
الذي يبقى في منطقة الانفعالات الحادة، لا يجعله قادرًا على دراسة الخيال والصورة
الشعرية،كما أن اللاوعي لا يتشكل فقط من الأحداث الرَّضِيَّة والمرضيَّة كما
يُصوِّره فرويد، لأن اللاوعي يتشكل _ أيضًا _ من أحلام وتأملات الطفل وأحلام
يقظته .
ومعَ
ذلك ، فإن باشلار يستخدم مفهوم التحليل النفسي لمعالجة مسائل تتعلق بالمعرفة
العِلمية، كما أنه يَمنح الطفولة أهمية قصوى. وعلى الرغم من ابتعاده عن منهج
التحليل النفسي الفرويدي، فإنه كثيرًا ما يُقابل أفكاره بأفكار فرويد .