وُلد الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرز بيرس (
1839 _ 1914 ) في كامبردج بولاية ماساتشوستس. كان والده أستاذًا
في علم الفلك والرياضيات بجامعة هارفارد . وكانت
والدته ابنة سيناتور قوي النفوذ ، وكانت العائلة تحتل مكانة مرموقة في مجتمع نيو إنجلاند
.
درسَ في جامعة هارفارد ،
وحصل على الماجستير في الرياضيات والبكالوريوس في العلوم الكيميائية . وإثر تخرُّجه
، عمل في إدارة مسح الأراضي الأمريكية ، وفيها تقلَّبَ في عدد من المناصب في
الفترة ( 1861 _ 1891 ). وضمنت له هذه الوظيفة الإعفاء من
التجنيد في جيش الاتحاد خلال الحرب الأهلية ( 1861_ 1865 ) . هذا فضلاً عَن كَوْنه
، وَجد مُتَّسَعًا من الوقت لمتابعة أبحاثه، التي اتَّخذت وجهة فلسفية تحت تأثير
اطلاعه على كتابات الفيلسوف كانت . وفرضَ نفسه من هذه الناحية، وهو ما أهَّله لِيُدرِّس
الفلسفة في جامعة هارفارد، وعَمِلَ مُحَاضِرًا في المنطق (1879 _ 1884) في جامعة
جونز هوبكنز ، وشاركَ في تحرير عدد من المجلات المختصة. وفي عام 1887، انتقلَ مع
زوجته الثانية إلى بنسلفانيا ، حيث
بقي إلى أن تُوُفِّيَ عام 1914 بسبب السرطان. نشرَ كتابًا واحدًا " بحوث في
القياس الضوئي " ( 1878)، وأشرف على نشر مجموعة أعمال بعنوان "دراسات في المنطق " ( 1883 ). نشرَ بيرس طوال
حياته عددًا من المقالات، تَمَّ تجميعها إثر وفاته، ونَشْرها في ثمانية مجلدات ،
تحت عنوان"مجموعة أبحاث شارل س. بيرس".ومن هذه المقالات،نذكر أوَّل
محاولة فلسفية مهمة له ، أرسى من خلالها دعائم الذرائعية، وهي"كيف نجعل
أفكارنا واضحة" (1878)،وكذلك" دراسات في المنطق"( 1883)،
و"الهندسة المعمارية للنظريات"(1890)،و"ما الذرائعية؟"(1905)،و"نشأة
الذرائعية"(1905).
يُعتبَر بيرس مُؤسِّس الفلسفة الذرائعية
(البراغماتية) مع وليم جيمس. كما يُعتبَر إلى جانب دي سوسير أحد مُؤسِّسي السيميائيات المعاصرة . وقد
تركَّزت الفكرة الأساسية للبراغماتية على أن العقل لا يُدرِك غايته، إلا إذا قاد
صاحبه إلى العمل الناجح، فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة المفيدة، والمعيار
الوحيد للحقيقة هو فعاليتها ونجاحها. والبراغماتية في المعرفة هي القول إن القانون
العِلمي (أو القاعدة العلمية) لا يكون إلا عند التطبيق في ظروف عملية بصورة ناجحة
ونافعة، وهو مضمون ما سُمِّيَ بقانون بيرس : (( قيمة فكرة ما تكمن في نتائجها
العملية )).وفي العقود الأخيرة، أُعيد اكتشاف فِكره، بحيث صار أحد كبار المجدِّدين
، خصوصًا في منهجية البحث وفلسفة العلوم.
عانى بيرس نفس مأساة جون ستيوارت ميل،
فقد علَّمه والده وأثقل كاهله بافتراض تَمَتُّع ابنه بالعبقرية . وقد ورث بيرس
عبئًا آخر أكبر تَمَثَّلَ في ألم العصب الثلاثي التوائِم (ألَم الوجه المزمن
العشوائي)، علاوة على كَونه أعسر. ولكنه تغلبَ على كونه أعسر بنجاح . ومع ذلك ،
فقد كان لإرثه المرضي عواقب خطيرة. كان يتناول الأفيون للتغلب على نوبات الألم
الحاد المتكررة، وأدمنَ المورفين . كل هذا بالإضافة إلى غروره النابع من إيمانه
الراسخ بقدراته المتميزة ، الذي أسهم في عدم قدرته على الانسجام مع المجتمع
التقليدي، وأفشلَ كُل محاولات خلق حياة مهنية غير تلك التي أتاحها له نفوذ
والده.وكان بيرس مُتعطشًا للتقدير والنجاح،لكن غروره منعه من تحقيق حُلمه. في
عام1876 التقى بيرس بالسيدة جولييت بورتالاي الغامضة في حفل راقص بفندق بريفورت
بنيويورك ، ونشأت بينهما علاقة عاطفية علنية . وكان بيرس قد تزوَّجَ من هارييت فاي
في عام 1862 . ونظرًا لشخصيتيهما المتنافرتين صَعْبَتَي المِراس ، تعرَّضت
علاقتهما الزوجية لتوتر متزايد، إلى أن انهارت بلا رجعة . وحين شغل بيرس منصبه في
جامعة جونز هوبكنز في عام 1879 ، كان يعيش مع جولييت وهو لا يزال متزوجًا من
هارييت. وقد أثار هذا الأمر فضيحة أذكت نيرانها الشائعات المثارة بالفعل حول
إدمانه المخدِّرات، وغطرسته وغُروره، وسلوكه المنحرف، وخياناته الزوجية
السابقة.ويبدو أن بيرس كان غير مُدرِك للخطر المتزايد، حيث كتب إلى أحد أقاربه مُخبرًا
إيَّاه أنه متأكد من أنه سيحصل قريبًا على ترقية لدرجة الأستاذية . لكنه في عام
1883 طُرد من منصبه الجامعي . وسُرعان ما تغيَّرت حياته إلى الأسوأ، وباتت مُتزايدة
الصعوبة . قضى بيرس ما تبقى من حياته في عُزلة، في بلدة ميلفورد الصغيرة في ولاية
بنسلفانيا . وكان غرضه من التقاعد هناك هو إكمال مجلدات تضم كل اكتشافاته الفلسفية
الكبيرة على مدار ثلاثين عامًا، ولكن تلك الكتب العظيمة لَم تخرج إلى النور . فقد
دفعته الصعوبات المالية المتزايدة إلى تكريس الكثير من وقته وجُهده لكتابة مقالات
نقدية حول الكتب الفلسفية والعلمية لعامة القُرَّاء . خلال السنوات الأخيرة من
حياته ، أقعده المرض عن العمل تمامًا ، فعاش على المعونات التي كان أخوه الأصغر
هربرت وقليل من أصدقائه يُقدِّمونها له .