تفسير الظواهر الاجتماعية يرتبط بتأويل الرموز المعرفية
في اللغة.وكُلُّ مُجتمع إنساني لا يعيش داخل اللغة، سيجد نَفْسَه بلا هُوِيَّة ولا
بَصْمَة ، وهذا يعني أنَّ إيقاع الحياة اليومية سيعيش في الفراغ ( خارج الزمان ) ،
وتاريخ التحولات الشعورية سيعيش في العَدَم ( خارج المكان ) . لذلك ، يجب على
الإنسان إعادة اكتشاف اللغة ، لَيس مِن أجل إكمال نَقْصِه أوْ توسيع أُفُقه
فَحَسْب، بَل أيضًا مِن أجل تكوين منظومة وجودية قادرة على تكوين الدَّلالات
اللغوية في الأنساق الاجتماعية ، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة ، كَي تصبح
اللغةُ قادرةً على توليدِ الأزمنة والأمكنة باستمرار ، وتأسيسِ قواعد منهجية لتفسير
الظواهر الاجتماعية ضِمن صَيرورة ثقافية ، تستطيع تحويلَ الشكل إلى مَضمون، وإحالة
المَضمون إلى مُستويات الوعي الفردي والجماعي . وعمليةُ ارتباط المَضمون بالوَعْي
تُجسِّد فلسفةَ اللغة رمزيًّا واجتماعيًّا ، لأن هذه العملية هي التي تُشكِّل
نظامَ المعرفة الإنسانية الذي يتكوَّن مِن المَعْنى والوَعْي بالمَعْنى . وهذه
الثنائيةُ الفكرية تُمثِّل مركزَ الظواهر الاجتماعية ، الذي يُحوِّل الطاقةَ
الرمزية في اللغة إلى كُتلة إنسانية في المجتمع .
2
الأُمُّ هي التي تُربِّي ، ولَيست التي تُنجِب . وكذلك
اللغة هي التي تُوظِّف الأُسَسَ المعرفية في سِياق الفِعْلِ الاجتماعي والشَّرْطِ
الإنساني ، ولَيست التي تُنجِب الألفاظَ الخاليةَ مِن الشُّعور ، والمعاني
العاجزةَ عن الامتداد والدَّيمومة . وسببُ عَجْز الإنسان عن معرفة نَفْسِه ، يَرجع
إلى عَدم قُدرته على مَعرفة اللغة ، فهو يَعتبرها مَجموعة من الألفاظ، ووسيلة
للتخاطب لقضاء الحاجات اليومية . وهذه هي قِشرة اللغة الخارجية ، ولكن اللغة شديدة
العُمق ، والسابح إذا استهانَ بالبحر سَيَغرق . ورحلةُ الإنسان إلى معرفة اللغة
رُوحًا وجسدًا ، لا تتأتَّى إلا بالاستعداد للغَوص في الأعماق ، وعدم الاكتفاء
بِمُلامَسَة السَّطْح . وعلاقةُ الإنسان معَ اللغة هي عملية تنقيب مُستمرة ،
وكُلُّ انقطاع يُمثِّل فَجْوَةً في مسار التفسير الاجتماعي ، وثَغْرَةً في مَجال التأويل
اللغوي .
3
تفسيرُ الظواهر الاجتماعية يعتمد على إيجاد الأفكار
القادرة على حَمْل التفاصيل اليومية المُعاشة ، وإيصالها إلى حرارة التجربة
الإنسانية، مِن أجل بناء أنساق معرفية قادرة على التعامل مع اللفظ اللغوي حقيقةً
أوْ مَجَازًا ، وتوظيفه في المَعنى الاجتماعي العام ، والتحررِ من ضغط العناصر
الزمانية ( وذلك بنقل الماضي إلى الحاضر ، والانطلاق إلى المستقبل ، وبذلك يكون
الماضي شرعيةً وُجوديةً ، وقُوَّةً دافعةً إلى الأمام ، ولا يَكون مشروعًا للهُروب
وعِبئًا ثقيلًا ) ، والتحررِ من ضغط العناصر المكانية ( وذلك باستعادة الحُضُور
وانتزاعه من الغياب ، ونقل مَاهِيَّةِ العَدَم إلى هُوِيَّةِ الوجود ، والانطلاق
مِن نَفْي المعنى الحضاري إلى إثباته . وبذلك تكون الحياةُ شهادةَ مِيلاد للوُجود
المُتجدِّد ، ولَيست هاويةً مُرتبطةً بالمأزق الوجودي ) . والظواهرُ الاجتماعية
حِين تتكرَّس في اللغة ، فهذا دليل على تفسير الواقع والوقائع وإيجاد رواية منطقية
للأحداث ، ولَيس فُرصةً للهُروب من تحدِّيات الحياة اليومية . وكما أنَّ اللفظ
اللغوي يَكشف عن المُراد الاجتماعي ، كذلك التاريخ الإنساني يَكشف عن مركزية اللغة
في الوجود، ودَوْرِها المِحوري في التَّفريق بين الحَياةِ الحقيقية والحياة
الوهمية ( المَوت في الحياة ) .
4