وُلِدت الأديبة
الإيطالية غراتسيا ديليدا ( 1871_ 1936 ) في جزيرة سردينيا لأسرة من الطبقة
المتوسطة. كان والدها مُزَارِعًا وعُمدة القرية. عاشت حياتها في بيئة اجتماعية
وُدِّية وحيوية. فقد كان والدُها يستقبل الكثير من الضيوف في مزرعته ، مِمَّا
جعلها تتعرَّف على نماذج مختلفة من الشخصيات ، وتَطَّلع على تفاصيل العلاقات
الاجتماعية التي صارت فيما بَعْد أحداثًا في رواياتها .
تزوَّجت في
سِن مُبكِّرة ، وهاجرت إلى روما في أوائل القرن العشرين . لكنها لَم تنقطع عن مسقط
رأسها الذي يُعتبَر البيئة الخصبة لأعمالها الروائية . ومَعَ أن بيئة رواياتها
محلية ومَعزولة عن العالَم ، إلا أن التَّحليل النَّفسي الدقيق للشخصيات جعلها
كاتبةً عالميةً ، وساهمَ بشكل فَعَّال في انتشار أعمالها في أنحاء العالَم .
فالمشاعرُ الإنسانيةُ واحدة في كُل الأمم والشعوب .
لم
تَتَلَقَّ تعليمًا نظاميًّا في المدارس الرسمية . لكنها عَلَّمَتْ نَفْسَها
بنفْسها ، واعتمدت على التثقيف الذاتي ، وقراءة الأعمال الأدبية للأدباء الرُّوس
والإيطاليين ، والتفاعل مع الحكايات الشعبية عن تفاصيل الحياة الريفية في جزيرة
سردينيا ، وكفاح الفلاحين من أجل تَوفير المتطلبات الأساسية للحياة . تُعتبَر
ديليدا من أهم الروائيات الإيطاليات ، وتنتمي أعمالها إلى المدرسة الطبيعية . وقد
كتبت أكثر من خمسين رواية ، وفازت بجائزة نوبل للآداب عام 1926 ، لكتاباتها
المستوحاة من حياة الفلاحين في جزيرة سردينيا ، وتعاطفها مع مشكلات الإنسان وأزماته
الحياتية والمصيرية ، لتكون أول إيطالية تفوز بهذه الجائزة .
لم تكن
عائلتها داعمةً لرغبتها في الكتابة ، فظهورُ كاتبة يتعارض مع القواعد الاجتماعية
للنظام الأبويِّ ، لذلك قامت ديليدا في بداياتها بالكتابة تحت اسم مستعار ،
احترامًا لتقاليد العائلة والمجتمع الذي نَشَأتْ فِيه.
تُركِّز في
أعمالها الروائية على تصوير الحقائق القاسية في حياة الإنسان ، وإظهار أنماط
الحياة الصعبة ، وإبراز التقاليد الشعبية ، وانتقاد القيم الاجتماعية التي تَجعل
الناس ضحايا لظروفهم الحياتية . كما يَظهر في كتاباتها الأثرُ المأساوي للغواية
والخطيئة بين البسطاء .
تُرجِمت
أعمالها إلى الكثير من اللغات الأوروبية . كما أن رواية " رماد " (
1904) حُوِّلَت إلى فيلم سينمائي عام 1916. وهذه الرواية تحكي قصة طفل غير شرعي
كان سببًا في انتحار أُمِّه.
يقوم أسلوب
ديليدا الأدبي على أربعة أركان : _
الأول :
إظهار العنصر العاطفي النَّفْسي الذي يصنع النبض الدرامي في السَّرد .
الثاني :
التركيز على فكرة المأساة في حياة الناس ، وذلك بتسليط الضوء على المشاعر
الإنسانية المتناقضة ، والأحاسيس الاجتماعية المختلفة .
الثالث :
التركيز على فكرة الخطيئة وإغراء الجسد ، وتصوير الخطيئة كعقبة في طريق المجد
الإنسانِيِّ والتَّسامي الأخلاقيِّ .
الرابع :
كشف التفاصيل الاجتماعية المتعلقة بالفقراء وعاداتهم،اعتمادًا على القصص الشعبية
والطابع الفلكلوري لجزيرة سردينيا ، مَعَ إظهار العُمق النَّفسي للطبيعة البشرية،
وهذه القيمة الفنية تقترب من أسلوب الروائي الروسي الشهير دوستويفسكي .
واصلت
ديليدا الكتابة بكل نشاط بعد حصولها على جائزة نوبل ، فأصدرتْ مجموعتين قصصيتين
هُما " بيت الشاعر " و " شمس الصيف " . وامتازت قصصها بالنظرة
المتفائلة إلى الحياة رغم إصابتها بسرطان الثَّدْي ، وصوَّرت الحياةَ على أنها
جميلة وهادئة بكل ما فيها من المعاناة .
والإنسانُ
والطبيعةُ_ وَفْقَ منظور الكاتبة _ يَتَّحدان كَي يَتَغَلَّبا على الصعوبات
والآلام النَّفسية والجسدية .
وفي
كتاباتها الأخيرة ، يَبرز موضوع الزُّهد في الأمور الدُّنيوية ، وأن الإيثار أعظم
الصفات الإنسانية التي تُقرِّب الإنسانَ مِنَ اللَّه . وهذا الموضوع لَيس غريبًا
عن كتاباتها ، فكلُّ رواياتها تتحدَّث عن الإيمانِ باللَّه ، وقُدرةِ الإنسان على
التَّغير والتغيير .