وُلد الشاعر الروسي سيرغي يسينين ( 1895 _ 1925 ) في كونستانتينوفو ، وانتحرَ في لينينغراد ( بطرسبرغ لاحقًا ) وهو في الثلاثين ، ومع هذا كان لديه من الوقت ما كفاه لكتابة عدد كبير من النصوص الشعرية وغير الشعرية ، بعدما نزح من الريف الذي وُلِد وترعرع فيه إلى موسكو،حيث خاض النضال السياسي،وحقق دراسة جامعية متألقة جعلت أشعاره مليئة بالفولكلور الروسي. كذلك كان لديه من الوقت ما يكفيه ليتزوج أربع مرات متتالية، وأنجب أربعة أطفال من ثلاث نسوة ( زوجتين وعشيقة ) ، ما جعل حياته مصدر إلهام لكثير من المؤلفين .
تُعتبَر " بلاد الأوباش
" أهم قصائده على الإطلاق ، وتُمثِّل وصيته الأدبية ، غَير أن الأوباش في هذا
النص ليسوا الحكومة التي كان يسينين مُعاديًا لها ، ولا رجال السُّلطة الظاهرين أو
السِّريين، فالشاعر ما كان ليجرؤ على إطلاق هذا الوصف على سادة البلاد . فالأوباش
بالنسبة إليه هُم الآخرون : اللصوص الحقيقيون، وقطاع الطرق ، والعابثون سرقة
وفسادًا في بلاد تعمُّها الفوضى .
كتب يسينين " بلاد الأوباش
" خلال الفترة ( 1922 _ 1923 ) ، أي قبل موت لينين ووصول ستالين إلى السُّلطة
. ولكن في زمن كان من الواضح أن لينين لَم يعد صاحب الكلمة الفصل في السياسة
السوفييتية، وفي وقت كان الحس الثوري بدأ ينحدر لحساب مساعٍ خرقاء لبناء دولة
تُهمِل كل القيم التي كانت الثورة تدعو لتحقيقها . وكانت تلك السنوات صعبة ، ليس
فقط على الصعيد الفكري او على صعيد الآمال الثورية . بل كذلك على صعيد
الحياة العامة للناس العاديين. وهذا العمل الشِّعري الطويل الذي اشتغل عليه يسينين
طوال عامين، لَم يكتمل قَط ، كما أن ما كتبه منه لَم يُنشَر كُله خلال حياته . وقد
نُشِر ما أنجزه من " بلاد الأوباش " بعد صدور أعماله الكاملة عام 1927 ،
كاشفًا لِمَن كان لا يزال يتساءل عن دوافع انتحار الشاعر ، عن بعض تلك الدوافع ،
أو عن خلفياتها على الأقل .
في ذلك النص الشعري، رسم يسينين
صورة شديدة الضراوة والمرارة لمعظم سمات الحياة اليومية الروسية خلال تلك الحقبة ،
التي تلت مباشرة الحربَ الأهلية بين " الحمر " و "البيض " .
حيث كانت الحكومة عاجزة عن ضبط الأمور ، ولَم يكن في وُسعها بَعْدُ أن تمتلك من
الإمكانات ما يُخلِّصها من ذلك الفساد والفوضى والانهيار ، الذي يُرافق عادةً كُل
مرحلة انتقالية في كل أُمَّة، أي عمليات السرقة والنهب التي يُمارسها محترفون
ينتمون الى عصابات مُنظَّمة، وهؤلاء المحترفون هم الشخصيات الرئيسية في هذا النص
الشعري. ويبدأ النص بحوار يدور بين مُفَوَّضَيْن من أهل الحكومة ، أحدهما هو
تشيكتسوف، المفوَّض المكلَّف بحفر خط سكة حديد في منطقة الأورال، والثاني زميل له.
وغاية هذا الحوار هي أن يرسم لنا بِقَدْر كبير من الواقعية والمرارة ذلك الوضع
البائس اليائس الذي يعيشه الشعب، الذي هو أصلاً _ بحسَب الحوار_ شعب كسول ورجعي
الأفكار . وبعد مشهد الحوار التمهيدي هذا، يجعلنا الشاعر نشهد عملية نهب قطار، عن
طريق أفراد عصابة قوية وشرسة يتزعمها اللص نوماخ، الذي سُرعان ما يُقدِّمه إلينا
يسينين بصفته شاعرًا ولصًّا في الوقت نفسه . ويُؤكِّد لنا يسينين أن نوماخ هذا لا
يمكنه أن يجد سبيلاً لحياته خلال تلك الحقبة الصعبة إلا عبر ركوب المخاطر. وفي
مشهد آخر، يُطالعنا شرطي صيني هو ليسا تشن، يأخذ على عاتقه مهمة مطاردة نوماخ، غير
أن هذا سُرعان ما يُفلت منه بحيلة تُثير الإعجاب. ثم نكتشف أن نوماخ، خارج إطار
أعمال السرقة والنهب وقطع الطرقات،إنما يسعى الى تأسيس حركة مضادة للثورة تتألف من
كل أولئك اليائسين الذين هُم على شاكلته، ولَم يبقَ لهم إلا ان يُجازفوا لاستعادة
حياتهم وأوضاعهم.واللافت هنا هو أن يسينين لَم يخترع شخصية نوماخ،بل هو استقاها من
صفات لص حقيقي كان واسع الشهرة ومُطَارَدًا من الجميع في ذلك الحين . وكان معروفًا بأفكاره
المعادية للسوفييت . والطريف أن يسينين جعل اللص يتكلم دائمًا عبر استخدام صور
شعرية ومجازات مدهشة ، وعبر استخدام لغة راقية ، ولا سِيَّما حين يعالج في حديثه
مواضيع كان يحلو ليسينين أن يعالجها في نصوصه الأخرى، مثل حب الطبيعة ، ونعي
التآخي بين البشر ، والإيمان بالماضي . وهذا يُشير بوضوح إلى أن اختيار يسينين للص
وشاعر رجعي التفكير بطلاً لهذه القصيدة، لَم يكن عبثًا، بل كان مُحَمَّلاً بشتى
أنواع المعاني والدلالات ، ما جعل دارسي أعمال يسينين وحياته يعتبرون"بلاد
الأوباش " وصيته السياسية ورسالته الانتحارية .
وبالرغم من أن الدولة قد أقامت جنازة
مهيبة له ، إلا أن معظم كتاباته كانت محظورة من الكرملين ، أثناء حُكم
ستالين وخروتشوف . وفقط في عام 1966 ، أُعيد نشر معظم أعماله .
يُعتبَر يسينين من أشهر الشعراء الروس في القرن العشرين، وعُرِف بأنه شاعر حسَّاس ومتدين، وقد لاقى الكثير من التضييق بسبب تديُّنه في ظل الثورة البُلشفية . وكانت نهايته تراجيدية ، فقد انتحرَ في ليلة 27 ديسمبر 1925 ، في غرفة بفندق " إنغليتير " في بطرسبرغ ، وهو في أوج فُتَّوته وإبداعه .