وُلد الشاعر الفرنسي
شارل بودلير ( 1821_ 1867) في باريس . تُوُفِّيَ والده الثري وهو في السادسة مِن
العُمر ، فتزوَّجت أُمُّه من ضابط كبير صار فيما بعد سفيرًا لبلاده ، وترك هذا
الزواج في نفس الطفل شرخًا عميقًا لَم يَقْدِر على التعافي مِنه ، خصوصًا أنه وُضِع
في مدرسة داخلية، وفقد حنان الأم ، وهذا وَلَّدَ عنده تمرُّدًا وعنادًا ، فانصرفَ
إلى المطالعة .
وعندما صار
شَابًّا ، مالَ إلى الشِّعر ، وبرز بين أقرانه في هذا المجال، لكنه كان ماجنًا
مُبَذِّرًا ، وهذا دفع أسرته _ بتوجيه مِن زَوج أُمِّه _ إلى الحد من استهتاره ،
وجعل أمر الإنفاق عليه من الثروة الطائلة التي تركها له والده مَنُوطًا بموافقة
وصي شرعي،وكان هذا بخيلاً لَم يهتم باحتياجات الشاعر الشاب الأنيق ومشاعره ، وقلبه
المعلَّق بامرأة ماجنة أتعبته بشهواتها ونزواتها، فعاشَ الشاعر حياةً مليئة بالألم
والحزن ، وأُصيب بمرض الزُّهري، ومُنِيَ بالحرمان والفقر حتى وفاته .
بسبب هذه
الحياة المضطربة القائمة على الحب الضائع والخيبة والمرض ، استوحى بودلير قصائد
ديوانه الشهير " أزهار الشر " ( 1857) . وأحدثَ عند نشره ضجةً هائلةً
بين بعض فئات المجتمع الفرنسي المحافظة ، وأُقيمت على الشاعر وناشره دعوى قضائية ،
بِحُجَّة أن بعض قصائد الديوان تُنافي الأخلاق الحميدة ، وتصطدم بثوابت المجتمع ،
بما تضمَّنته من جُرأة فاضحة في وصف الشهوة ومفاتن الجسد . وحكمت المحكمة على
الشاعر بدفع غرامة مالية ، وإزالة ست قصائد من الديوان ، مع منع إعادة نشرها .
لقد ترك
حُكم المحكمة في نفس الشاعر ألَمًا وخَيبةً وحسرةً ، لكنَّه صَنَعَ شُهرةً كبيرة
لهذا الديوان على مستوى فرنسا . وظَلَّ بودلير يُتابع نشاطه الأدبي ، ونشر مؤلفات
في النقد الفني لفتت الأنظار إليه .
بدأ بودلير
كتابة قصائده النثرية عام 1857، عَقِب نشر ديوانه" أزهار الشر " . وكان
راغبًا في إيجاد شكل شِعري يُمكنه استيعاب
العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى . وقد وَجد بودلير ضالته في
" البالاد " ، وهو النص الذي يُشبِه الموال القصصي في العربية ، وهو
الشكل الذي استوحاه وردزورث وكولردج في ثورتهما على جمود الكلاسيكية .
وفي عام
1861 ، بدأ بودلير في محاولة لتدقيق اقتراحه الجمالي وتنفيذه ، فكتبَ هذه القصائد
التي تُمثِّل المدينة أهم ملامحها ، وتُعتبَر مَعينًا لا ينضب من النماذج والأحلام
.
يُعتبَر
بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ، ومِن رموز الحداثة في العالم . وكان
شِعره مُتَقَدِّمًا على شِعر زمنه ، فلم يُفهَم جَيِّدًا إلا بعد وفاته . وكان يرى
أن الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة ، وهي القصائد التي أُضيفت
إلى " أزهار الشر " في طبعته الثانية عام 1861، تحت عنوان لوحات باريسية
.
إن أبرز ما
قدَّمه بودلير في أدبه وحياته مَعًا ، هو ذلك الصراع القائم بين الخير والشر .
وعندما كانت تُسيطر عليه مشاعر الاكتئاب وكراهية الحياة ، كان يلجأ إلى الحشيش
والخمر .
لقد كانت
رُوح بودلير قلقةً ، وهذا القلق تَحَوَّل إلى رؤية شعرية ، تمتزج فيها الأصوات
والألوان والروائح ، لتصنع رِعشة أدبية محتوية على الأفكار الإبداعية والخواطر
الشفافة .
ووَفْق
وُجهة نظر بودلير ، ينبغي أن يَنْفذ الشاعر الْمُلْهَم إلى جميع العلاقات القائمة
بين الإنسان والطبيعة . وعليه أن يسبح في بحر الرموز المنسجمة ، التي تفتح له
آفاقًا من المعرفة لأسرار الكون. فيصبح الشِّعر قادرًا على الإيحاء والإيماء .
وقد كان
ديوان " أزهار الشر " تعبيرًا عن ثورة الشِّعر الفرنسي ، والشعر
الأوروبي كُلِّه ، بعد أن تُرْجِم إلى معظم اللغات . وصارَ عام 1857 فاتحةً لعصر
جديد في الشِّعر ، وتأثَّر بهذا الديوان عدد كبير من الشعراء الرمزيين مِثل :
مالارميه ورامبو .
واستطاعَ
بودلير أن يفتح حُدود الشِّعر على بعضها البعض ، ويصنع صُوَرًا شِعرية رائعة
وفريدة . وقد لَمَسَ جميع الشعراء في شِعره سِحْرًا وإبداعًا وتجديدًا ، ولا تزال
الدراسات النقدية تكشف عن أسرار شِعر بودلير ، وتُوضِّح جمالياته الرمزية .