وُلد الكاتب الإنجليزي غراهام غرين(1904_
1991) في بلدة بركَمْستيد بالقرب من لندن. كان والده مديرًا لمدرسته التي حاولَ
الهرب منها ، فأُرْسِل إلى لندن للعلاج لدى طبيب نفسي آواه في مَنْزله ، وعَدَّ
تلك الفترة أسعد أيام حياته . درس لاحقًا في جامعة أكسفورد ، وبعد تخرُّجه تحوَّلَ
عن الكنيسية الأنكليكانية نحو العقيدة الكاثوليكية ، ثُمَّ تزوَّج عام 1927 فتاةً
من المحيط ذاته . عمل في أثناء الحرب العالمية الثانية في وزارة الخارجية
البريطانية ، ومكَّنه ذلك من معرفة بلدان كثيرة ، صارت لاحقًا مسرحًا لأحداث
رواياته . وقد عمل قبل ذلك مُحَرِّرًا في صحيفة التايمز ، إلا أنه تركها عام 1930
ليتفرَّغ للكتابة . تتَّصف غالبية مؤلفاته بصبغة الرواية البوليسية ، مِثل :
" قطار إسطنبول"( 1932)، المعروفة بعنوانها الأكثر شُهرة " قطار
الشرق السريع "، والتي ذاعت شُهرته بسببها ، ووصفها بأنها تسلية . ومعَ هذا ،
فإن نزعة دينية بدأت بالظهور لدى طَرْقه موضوعات الإيمان والصراع بين الخير والشر،
والخيارات المتاحة أمام الإنسان ، والمفارَقات التي يتَّصف بها هذا الوضع (الشرط)
الإنساني فيما أسماه غرين " الغرابة المخيفة للعناية الإلهية " . وتظهر
هذه النظرة القدرية واضحةً في روايات مِثْل: صخرة برايتون ( 1938)، و "
العميل السِّري" ( 1939) التي عالَجَ
فيها موضوع اليأس في ظروف الحرب الأهلية الإسبانية، و"وزارة الخوف " ( 1943)،و" الرَّجل الثالث " ( 1950)
، التي كتبها للسينما أصلاً ، وصارت مسلسلاً تلفزيونيًّا، حول الحب والجاسوسية في
أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وأيضًا في " عميلنا في هافانا "
( 1958) في كوبا ما قبل الثورة. كتب أولى رواياته المهمة " السُّلطة
والمجد" ( 1940)، وحكى فيها قصة القِس المكسيكي السِّكير ، الملتزم والخائن
في آن معًا ، والتحولات التي تطرأ على حياته ، والصراع الذي يُعانيه ، والضغوط
المادية والروحية التي يتعرَّض لها ، والخيارات التي يُواجهها ، مِمَّا أثار حفيظة
الكنيسة الكاثوليكية فأدانتها .
وبالنهج ذاته كتب " صُلب المسألة " ( 1948 ) حول رئيس الشرطة في
مدينة أفريقية ، وملابسات حياته ومواقفه من الحياة والحب ، وأخيرًا الموت (
الانتحار ) . وأيضًا " نهاية العلاقة " ( 1951)، حيث لا يمكن للإيمان أن
يصير مخرجًا، أو مهربًا للشخصيات، بل هو " صُلب المسألة" تمامًا كما هو
الحب . وتكمن في أحد تقارير غرين الصحفية حول فيتنام نواة روايته " الأمريكي
الهادئ " ( 1955). ففي أثناء طيرانه مع طيار فرنسي فوق دلتا نهر هناك ، يقوم الطيار بقصف
قارب ينساب بسلام فوق سطح النهر ، وقتل رُكَّابه ، للتخلص من شعوره بالرتابة
والملَل . وفي ذلك المثال الأوضح لعبثية الوجود والفعل المجاني . وتُعتبَر رواية
" القنصل الفخري " ( 1973) مِن أفضل روايات غرين ، وتستحضر عصر الفوضى
والاختطافات السياسية في أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن العشرين .
كان غرين شغوفًا بالترحال والمخاطر
والمغامرة ، حتى طغى ذلك على حياته وكتاباته ، التي شملت الأنواع الأدبية كافة.
والمحيط المثالي في أغلب رواياته هو المناطق ( الساخنة ) مَجارًا وحقيقةً.
والعالَم هو مسرحه ، مِن كوبا إلى المكسيك، مرورًا بالأرجنتين ، ومِن أوروبا إلى
آسيا ، مُرورًا بأفريقيا ، وهو محيط البلاد الاستوائية ، حيث الحر والحرب والفقر
والفساد والصراع من أجل البقاء،والحفاظ على الإيمان، ومواجهة الجنون،حيث تظهر
الأحاسيس الإنسانية الدفينة إلى السطح. وصف غرين نفسه في مرحلة متأخرة من حياته
بأنه " ملحد كاثوليكي "، و " كاثوليكي يكتب وليس كاتبًا
كاثوليكيًّا " ، كذلك رفض تسميته بالكاتب الوجودي ، بالرغم من كثير مِمَّا
يربطه بالوجودية : (( أنا أشعر بالضيق ، إذن أنا موجود )) .
تميَّز غرين بشخصية متفردة في حياته الخاصة
وفي أدبه ، الذي أضفى عليه عناصر التشويق والإثارة ، إضافة إلى الحبكة المحكَمة
والبناء الروائي المتقَن ، وتمتَّعَ بالرغم من واقعيته ببعد رمزي
وميتافيزيقي . وقد عبَّر عن أسلوب عمله وطريقة تكوينه لشخصياته في يوميات كتبها في
أثناء رحلة في أفريقيا بعنوان " بحثًا عن شخصية " ( 1961) ، وهو بحث
مستمر عن الأفضل ، ومن أجل اكتشاف الذات .
كانت لغرين سياسة خارجية مستقلة عن الخط
الرسمي لبلاده ، فقد صعق حكومته حين ظَهَر إلى جانب الرئيس الكوبي فيدل كاسترو .
وعُرِف بعدائه المعلَن للولايات
المتحدة الأمريكية وما تُمثِّله ،
وباحتقاره لرؤسائها الذين رأى فيهم تجسيدًا للشر في العالَم . وكانت له نظرية خاصة
في الولاء والخيانة ، إذ تعاطف مع بعض الجواسيس الذين تجسَّسوا لصالح الاتحاد
السوفييتي ( سابقًا )، ورفع في أدبه من أهمية الجاسوس ، إذ يعزو الخيانة إلى
المحيط والضغوط الخارجية، وهو تقليد أخذه عنه آخرون كتبوا في النوع الأدبي ذاته ،
ويزعم بعض دارسيه أن ذلك كله لَم يكن سوى غطاء لعمله في الاستخبارات البريطانية .